ابحث عن شيطانك المذهل
أضيف بواسطة: , منذ ٤ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 6 د


أدق كلمة يمكن أن توصف بها رباعية "صديقتي المذهلة" لإيلينا فيرانتي هي "مرعبة"، بحجمها (أربعة أجزاء كل جزء أكثر من 500 صفحة )، بشخصياتها (التي استلزمت وجود فهرس شخصيات يتم تكراره في كل جزء ومع ذلك تنسى أحياناً اسم شخصية ما فتعود إليه)، بمواضيعها وأحداثها (التي تغطي حياة جيل كامل في أكثر مراحل التاريخ الأوربي تقلبات وأحداث). هذه رواية مرعبة فعلاً، بكل ما فيها من عنف. ليس فقط ذلك العنف المتمثل في ضرب الأزواج لزوجاتهم، أو تشاجر الشبان ودخولهم في معارك دامية دفاعاً عن أخواتهم وحبيباتهم، وليس فقط العنف في طريقة تعامل بعض الشخصيات مع الحياة، سواء بالانتحار أو الجنون، كميلينا المجنونة التي أحبت شاعراً وجنت عند فقدته وراحت تطلق صرخات حيوانية كلما شاهدت أحداً يشبهه أو يذكرها به، وكأم إيلينا العرجاء وعنفها مع ابنتها حتى بعد أن تزوجت وأصبحت أماً.وإنما المرعب أكثر من كل هذا العنف الدموي المرئي هو العنف اللفظي والحوارات التي تشعرنا بأن الشخصيات تتبادل إطلاق النار لا الكلمات، تلك الحوارات التي غالباً ما تنتهي أيضاً بتبادل اللكمات والصفعات. ذلك الرعب الذي نشعر به عندما نسأل أنفسنا هل يعقل أننا هكذا أيضاً، ونحن نتابع الطريقة التي تعري فيها الكاتبة شخصياتها وتسخر منها وتعاملها بلا رحمة، كلها على حد سواء، لا تقدم أي شخصية كشخصية كاملة، أو مثالية، كلما ظهرت شخصية جديدة ساحرة ومدهشة وما أن نوشك أن نقول نعم ها هي الشخصية المثالية فإذا بها تفاجئنا بجوانب دنيئة. نشعر بالحيرة حيال المقارنات التي نعقدها باستمرار في أذهاننا فنتساءل من الأفضل؟ من المحق؟ من الضحية؟ ليلا الشريرة والطيبة والضحية والظالمة في نفس الوقت، النقية والعاهرة، ذات الطباع البرية، والسيدة الراقية، والبذيئة والعاشقة، السوقية والقارئة، الفتاة البربرية التي تغطي ركبتاها الندوب والجروح، والشابة المميزة التي يقع الجميع في حبها ويخشاها في نفس الوقت: " ليلا الإسكافية، ليلا التي تقلد زوجة كينيدي، ليلا الفنانة والمؤثثة، ليلا العاملة، ليلا المبرمجة، ليلا التي لا تبرح مكانها أبداً وتراها دوماً خارج السياق". أم صديقتها، التي حتى عندما نفكر بالتحيز إلى صفها لا ترحم هي نفسها فتواصل انتقادها لذاتها وتكشف كل نقاط ضعفها وعيوبها وادعائها والدوافع الحقيقية لكل تصرفاتها واجتهادها وسعيها وشعورها بالتبعية المطلقة لصديقتها أولاً ثم للشخص الذي أحبته. ورغم كونها أحد الشخصيتين الرئيسيتين، فهناك ما ينفرنا من الإعجاب المطلق بها. كانت تدرس وتنجح لتنال إعجاب صديقتها ثم صارت تقرأ وتجتهد لتنال إعجاب الرجل الذي أحبته، ثم صارت تكتب وتكتب لتنال إعجاب القراء ودور النشر والصحف، وبنفس الوقت لا نملك إلا الإعجاب بشجاعتها وإصرارها ومثابرتها ووعيها بكل ما ينقصها. ومع أن ليلا هي من تطلق لقب صديقتي المذهلة على صديقتها الكاتبة لكننا نشعر أن الصديقة المذهلة هي ليلا. ليلا التي أكثر ما يثير الإعجاب فيها هو "ذكاؤها المجاني. إذ كانت تتميز عن الآخرين بأنها في طبيعتها لا تذعن لأي ترويض، ولأي تسخير، ولأي مطمع."


المرعب في هذا العمل الضخم أننا لا نشعر أبداً أنه عمل روائي من وحي الخيال، إنه أشبه بالواقع بكثير، كل شيء فيه يحدث كما يحدث في الواقع لا كما يحدث في الروايات، حتى في تسلسل أجزاء الرواية لم تخبرنا في كل جزء جديد أن عدم قراءة الجزء الأول لن تؤثر على متعة قراءة بقية الأجزاء، كما تفعل عادة الروايات المتسلسلة، فلا بد لك هنا من قراءة الأجزاء كلها ومنذ البداية تماماً، وفي كل جزء ستعيد لك تلخيص الأحداث السابقة وتذكيرك بأسماء الشخصيات وكأنها تخشى أن تنساها حتى تلك التي ماتت منها.
الكتابة عن هذه الرواية بحد ذاتها مرعبة، فمن أين تبدأ وعن أي شخصية تحكي وأي خيط تمسك؟ أي جرأة تلك التي فكرت بها الكاتبة لتقرر الكتابة عن تفاصيل حياة جيل بأكمله بكل هذا الغنى الذي يشعرك بأنك تقرأ عن بيئة ليست بعيدة كثيراً عن عالمنا، حيث تدور الأحداث في حارة فقيرة من مدينة نابولي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، خرج كبارها للتو من حرب أورثتهم فقراً وبيوتاً تآكلت جدرانها وامتلأت بالرطوبة ويحاول الصغار فيها معرفة ما حدث "قبل وجودهم" وبداية حياة جديدة لا علاقة لهم فيها بذنوب وآثام من سبقهم ليجدوا أنهم كانوا واهمين، إذ يبقى شبح الماضي مخيماً على حياتهم ومتحكماً بها. فجميعهم بلا استثناء لم يتخلص من انتماءه: ابنة الاسكافي وابنة البواب وابن الغول وأبناء المرابي والمجنونة والشاعر، كلهم ورثوا أخطاء آباءهم شاءوا أو أبوا.


الصديقتين من مواليد 1944، والرواية تبدأ عام 2010 لتخبرنا أن ليلا التي بلغت من العمر 66 عاماً اختفت تماماً وابنها يبحث عنها، فيتصل بصديقتها المقربة إيلينا، طالباً مساعدتها، لتخبره بنصيحة واحدة: لا تبحث عنها. وهنا تقرر صديقتها التي تعرف تماماً أن هاجس صديقتها الوحيد منذ أكثر من 30 عام هو أن تتلاشى تماماً ولا تترك لها أثراً واحداً وراءها، لذلك تقرر أن تكتب قصتهما منذ البداية. ويبدأ الحكي وتسلسل المشاهد السينمائية في رأسك يتتابع، منذ كانتا طفلتين في المدرسة الابتدائية ثم توقف ليلا عن الدراسة بسبب فقر أهلها ورفضهم لمتابعة دراستها، وتكمل إيلينا لتحقق نجاحات كبرى ضمن حياة رتيبة هادئة لا تخرج عن مسارها أبداً، فيما تعيش صديقتها حياة صاخبة مليئة بالأحداث فتتزوج صاحب ملحمة وتدير أعماله وتحقق نجاحاً كبيراً بين الملحمة وورشة الأحذية، ثم تتخلى عن كل شيء بعد أن أحبت شاباً جامعياً وتذهب لتعيش معه في شقة بائسة، ثم يتخلى حبيبها عنها وتعود لزوجها ثم تهجره أخيراً وتبدأ حياة جديدة كعاملة في مصنع لحوم وتعيش مع صديق قديم يتعلمان سوية البرمجة على الحواسيب البدائية التي بدأت بالظهور في ذلك الوقت، ليؤسسا بعدها شركة برمجة وينجبان طفلة تضيع للأبد وتكون هذه أقسى مرحلة في حياة ليلا.
ورغم شعوري أن الجزء الأخير لم يكن بنفس قوة وجاذبية وسحر الأجزاء الأولى، إلا أني أقر أن الرواية بكل أجزاءها رائعة وأنها لا يمكن أن تكون إلا بهذا الطول والتفصيل، وأن كل جزء منها يمثل مرحلة من مراحل العمر: الطفولة والمراهقة، الشباب، النضوج، الشيخوخة. وربما كون المتعة التي تبدأ في المرحلة الأولى وتصل لذروتها في المرحلة الثانية ثم تبدأ بالفتور في المرحلة الثالثة لتخفت تماماً في المرحلة الرابعة، هي تماماً ما يحدث في الحياة نفسها. فلا شك أن أحداث الطفولة والشباب أكثر إثارة وتقلباً وإدهاشاً من الأحداث التي ستليها في مرحلة النضوج أو الشيخوخة. في المرحلة الأخيرة من الحياة نبدأ بتكرار كل شيء ومراجعته والتفكير به ومحاولة محاسبة النفس لمعرفة بما أخطأنا وبما أصابنا، وهذا ما حدث في الجزء الأخير من الرواية، كانت تعيد سرد الكثير من التفاصيل وتعيد التفكير بها والحديث عنها وتأملها مراراً وتكراراً. لدرجة أن القارئ لهذه الرباعية لا يحتاج لأن يستنتج أو يقول أي شيء عنها على الإطلاق، حتى من الناحية النقدية، فالكاتبة نظرت في دوافع شخصياتها وحللتها ودرستها وأعادت تأملها وأشارت حتى إلى الإحالات التي يمكن أن يقوم بها القارئ، كضياع الدميتين في الجزء الأول وابنة ليلا في الجزء الأخير، تشير إليها الكاتبة بنفسها باعتبارها بطلة الرواية وكاتبة في نفس الوقت.


العلاقة بين الصديقتين هو أهم مواضيع الرواية، رغم تشعبها وتعددها حيث تغطي فترة حاسمة من تاريخ أوروبا فترة الحراك الثوري وظهور حركات التحرر والكفاح المسلح والنسوية ومفاهم جديدة حول العلاقات الجنسية ومؤسسة الزواج والدين والشيوعية والاشتراكية، لكنها كلها بلا استثناء يتم نقاشها وطرحها على هامش الموضوع الأساسي للرواية، العلاقة بين الصديقتين، إلى أي حد يحتاج الإنسان إلى شيطان يلهمه ويحفزه ويثير الدم في شرايين دماغه، إنسان تشعر عندما تحدثه أنك تفهم وأخيراً نفسك. فإيلينا الكاتبة والمثقفة والتي أمضت حياتها بين الكتب وسافرت إلى أمريكا وفرنسا وكثير من الدول الأوروبية في جولات ثقافية وترويجية لكتبها وأفكارها، تقول في نهاية حياتها لصديقتها التي لم تتجاوز المرحلة الابتدائية والتي لم تخرج يوماً من نابولي: "لقد كتبت هذا الكتاب بفضلك أنت، وبفضلك أنت صفا ذهني، وبدأت أرى الأشياء في منتهى الوضوح". تؤكد الكاتبة حاجتها لصديقتها حتى في الأوقات التي تشعر بكره نحوها، لكنها مهما حدث بينهما ستتصل بها وتثرثر معها وتستفزها للحديث، دافعة بليلا النزقة لإهانتها وصفعها ومواجهتها بالحقائق، عندها فقط تحفز خلايا دماغها وتشعل فيها الرغبة بالكتابة.
يبدو لنا أحياناً أن إيلينا لم تتمكن من الكتابة بشكل مستقل وحر ودون تبعية لأحد إلا عندما اكتشفت خيانة نينو، وبهذا أصبحت ناجحة في الكتابة والتفكير، وفاشلة في الحب، ورغم سعادتها بنجاحها نشعر من خلال تقليلها من شأن كتبها وما حققته في النهاية، أن هناك جزء منها كان يتمنى لو فشلت في الكتابة ونجحت في الحب. الرواية نسوية بحق، حتى الشخصيات الذكورية نشعر أنها موجودة فقط لنرى مدى تأثيرها ودورها في حياة الشخصيات النسائية، سواء كانت هذه المرأة مثقفة أو عاملة أو ربة منزل، ماذا يعني لها الرجل، هل تحاول النساء فعلاً الوصول لطريقة التفكير الذكوري، هل تشعر بالكمال فقط عندما تتمكن من التفكير مثله، هذا ما كانت إيلينا تسعى جاهدة لتحقيقه ونفته تماماً صديقتها المذهلة.
يبدأ الجزء الأول من الرواية باقتباس من "فاوست" لغوتة: يقول فيه الرب: "إن نشاط الإنسان معرض للخمول بسهولة، ما يدفعه إلى التلذذ بالراحة المطلقة. ولهذا، يطيب لي أن أزوده برفيق يستحثه ويؤثر فيه ويكون له بمثابة الشيطان".
لدى كل منا شيطانه الذي يلجأ إليه ليساعده على تصفية ذهنه والنظر إلى الأشياء من جوانب لا يستطيع رؤيتها من زاويته هو، شخص يلجأ إليه فقط ليثرثر بكلام لا معنى له وهو يعي تماماً أنه سيصل للمعنى الذي يبحث عنه. فابحث عن شيطانك.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء