أن تصبح قارئاً قبل حتى أن تولد!
أضيف بواسطة: , منذ ٥ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 23 د



"كانت فكرة حيرتني طوال حياتي. فكرة "ماذا لو" التي تلاحقنا، والحياة الوهمية التي نحملها في أذهاننا وتعمل بالتوازي مع الوجود الفعلي لنا. كيف ستنتهي  إليها الأمور لو كنت ذهبت إلى مدرسة مختلفة، أو لم أكن قد التقيت بالشخص الذي تزوجته؟ هذه هي ظلال حياتنا الممكنة الأخرى. إنها فكرة طاغية  جداً، إنها هي التي دفعتني الى كتابة الرواية".



هذا ما كان يدور في ذهن بول أوستر وهو في السادسة والستين من عمره عندما اعتزل في قبو منزله يعمل لسبعة أيام في الأسبوع على كتابة أضخم عمل روائي له، لخص فيه ليس فقط تاريخ أميركا بل أيضاً تجاربه ورؤاه ومواقفه من الماضي والحاضر الذي يرى أنه أكثر رعباً وإحباطاً من الماضي الذي انتقده في عمله.


غالباً ما يكون في مسيرة الكاتب كتاب واحد يمثل خلاصة حياة هذا الكاتب ومسيرته، ويبدو أن 1234 هي كذلك بالنسبة بالنسبة لبول أوستر، لذلم حين تقرر قراءة هذه الرواية لا تنسى أن يبقى بالقرب منك دوماً قلم وورقة، ليس فقط عملاً بنصيحة بول أوستر "إذا كان هناك قلم رصاص في جيبك، فان هناك فرصة جيدة في يوم ما انك ستشعر بالرغبة باستعماله " وإنما أيضاً لتسجل الكم الهائل من العناوين والأسماء التي ستشكل لديك في النهاية قائمة بالكتب التي سترغب بقراءتها أو الموسيقيين الذين ستود الاستماع إليهم أو الأفلام التي يحفزك فيرغسون على مشاهدتها بعد قراءتك لهذا الكتاب. والتي قمت هنا بجمعها عبر صفحات الرواية لتخرج كقائمة توصيات من بول أوستر..


تبدأ رحلة القراءة والتجوال في عالم الكتب والفن والسينما والموسيقا منذ كان فيرغسون في بطن والدته، أي أنه أصبح قارئاً قبل حتى أن يتنفس هواء هذا العالم، لهذت فمن الطبيعي أن نجده فيما بعد يعلن أن الكتاب هو "كل شيء بالنسبة إليه، الكتاب هو الفرق بين البقاء على قيد الحياة أو عدم البقاء على قيد الحياة"، عندما تخاطبها أختها الخالة ميلدرد، التي ستكون دائماً دليل فيرغسون في رحلة القراءة، قائلة:



الشيء الوحيد الذي يمتلكه السجناء، ولا يمتلكه الآخرون هو الوقت، مقدار كبير من الوقت. اقرئي يا روز. ابدئي بتثقيف نفسك. هذه فرصتك، وإن احتجت مساعدتي، فيسعدني أن أقدمها لك.

جاءت مساعدة ملدرد على شكل قائمة كتب، عدد من قوائم القراءة تغطي الأشهر المقبلة، وأرضى استبعاد روز المؤقت لارتياد السينما – جوعها للقصص والروايات للمرة الأولى، ولم تكن إلا روايات جيدة، لا مكان فيها لروايات الجريمة والأكثر مبيعاً التي لكانت انجذبت إليها، لو اختارتها بنفسها، لكنها كتب ميلدر، من تلك الكلاسيكية بالتأكيد، وإن كانت قد انتقتها آخذة بعين الاعتبار ما ستستمتع به روز. وهو ما عنى أن موبي ديك وويوليسيس والجبل السحري لم تكن قط على أي من تلك القوائم، لأن من شأن تلك الكتب أن تكون شاقة جداً على روز قليلة الخبرة إلا أن كتباً كثيرة أخرى، يمكن الاختيار من بينها. ومع مرور الأشهر وجنينها ينمو بأحشاها، أمضت روز أيامها سابحة في صفحات الكتب، رغم بعض الخيبات التي طالعتها من بين عشرات الكتب التي قرأت ( صدمتها لا تزال الشمس تشرق، على سبيل المثال، وجدتها ملفقة وضحلة)، استهوتها تقريباً الكتب الأخرى جميعها، واستحوذت عليها من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، ومن بينها رقيق هو الليل، وكبرياء وتحامل، وبيت المرح، ومول فلاندرز، وسوق الأضاليل، ومرتفعات وذرينغ، ومدام بوفاري، ودير بارما، والحب الأول، وأهالي دبلن، ونور في آب، وديفيد كوبرفيلد، وميدلمارش، وميدان واشنطن، والحرف القرمزي، والشارع الرئيس، وجين آير، وغيرها الكثير، لكن، من بين الكتاب جميعهم الذين اكتشفتهم في أثناء ملازمتها البيت، كان تولستوي أكثر من أثر بها، الشيطان تولستوي، الذي فهم كل شيء في الحياة، كما بدا لها، كل شيء عن قلوب البشر وعقولهم، لا فرق إن كان القلب أو العقل لرجل أو امرأة، وتساءلت كيف أمكن لرجل أن يعرف ما عرفه تولستوي عن النساء؟! فمن غير المعقول أن يختصر رجل واحد الرجال والنساء كلهم، ولذلك فقد عكفت على معظم ما كتبه تولستوي، ليس الروايات الكبيرة فقط مثل الحرب والسلم، وآنا كارنينا، والبعث، بل وأيضاً أعماله الأقصر، الروايات والقصص القصيرة، لم يضاه شيء قوة السعادة العائلية المكونة من مئة صفحة، تلك التي تروي حكاية عروس شابة وخيبة أملها التدريجية، العمل الذي مسها مساً عميقاً، لدرجة أبكتها في النهاية، وعندما عاد ستانلي إلى الشقة في ذلك المساء، ذعر لرؤيتها في مثل هذه الحالة، فرغم إنهائها قراءة القصة في الثالثة بعد الظهر، إلا أن عينيها كانتا لا تزالان مبللتين بالدموع.



وما إن أصبح فيرغسون في عمر السادسة قادراً على القراءة بنفسه حتى بدأ برنامج الخالة ميلدرد التثقيفي:


ليس من فتى آخر في نطاق معارفه من قرأ ما قرأه هو، ولأن الخالة ميلدرد اختارت قراءاته بعناية، بالضبط بالعناية نفسها حين اختارتها لأختها خلال فترة وصايتها عليها في سنيها الثلاث عشرة الأولى، قرأ فيرغسون الكتب التي أرسلتها إليه بشراهة الجائع جسدياً، إذ إن الخالة ميلدرد فهمت نوعية الكتب التي تشبع نهم الصبي الآخذ بالتطور وهو يكبر من سنته السادسة إلى الثامنة ،ومن الثامنة إلى العاشرة، ومن العاشرة إلى الثانية عشرة- ثم السنوات التي تلت ذلك وصولاً إلى نهاية دراسته الثانوية. بداية بحكايات الجن، ثم بكتب الأخوين غريم العديدة والملونة، والروايات الخيالية لـ لويس كارول وجورج ماكدونالد وي. نيسبيت، أُتبعت بصياغات بولفينش للأساطير اليونانية والرومانية، الإصدار المخصص للأولاد من الأوديسة، شبكة شارلوت، كتاب مقتطفات من ألف ليلة وليلة، قدّم الرحلات السبع للسندباد البحار، ثم بعد عدة أشهر من ذلك، منتخبات بستمائة صفحة من مجمل ألف ليلة وليلة، وفي السنة التالية الدكتور جيكل والمستر هايد، قصص الرعب والغموض من تأليف إدغار آلان بو، ثم الأمير والفقير، المخطوف، ترانيم عيد الميلاد، توم سوير، دراسة في القرمزي، وكانت استجابة فيرغسون لكتاب كونان دويل قوة، حيث كانت هدية خالته ميلدر في عيد ميلاده الحادي عشر دسمة للغاية، طبعة غنية جداً بالرسوم من أعمال شرلوك هولمز الكاملة. كانت تلك بعض من الكتب، لكن، كانت هناك التسجيلات أيضاً، التي لم تقل أهمية عن الكتب، وخصوصاً في هذه الآونة، السنتين أو الثلاث الأخيرة، مذ بلغ التاسعة أو العاشرة، فقد جاءت في فترات زمنية متقطعة ومنتظمة، تتراوح بين ثلاثة وأربعة أشهر. ثمة الجاز والموسيقا الكلاسيكية والموسيقا الشعبية والإيقاع والبلوز، وحتى الروك أند رول. مرة أخرى، كما الأمر مع الكتب، كان نهج الخالة ميلدرد محكماً في تربويته، وسارت بـ فيرغسون حسب المراحل، مدركة أن لويس أرمسترونغ يجب أن يأتي قبل تشارلي باركر، الذي يجب أن يأتي قبل مايلز ديفيس، أن تشاكوفسكي وريفال وغيرشوين يجب أن يأتوا قبل بتهوفن وموتزارت وباخ، وأنه يجب الاستماع إلى الـ ويفرز قبل الـ ليد بيلي، ثم إن إيللا فيتزجيرالد وهي تغني كول بورتر كانت خطوة أولى ضرورية قبل أن يتدرج المرء باتجاه بيلي هوليداي وهو يغني فاكهة غريبة...كانت الخالة ميلدر ذكية بما يكفي لأن تعرف كيف تغذي هذا التفاني، الذي كان إحدى الركائز الأساسية للبقاء على قيد الحياة.




ولهذا فمن الطبيعي والحتمي أن تكون النتيجة هي تحول هذا الشاب الذي أمضى 9 أشهر كجنين ثم طفولته ومراهقته برفقة الكتب أن يصبح بدوره كاتباً:

يدور فيرغسون في غرفته بسرعة مصيغاً إلى التسجيلات، متنقلاً بين أعمال الكورال الكبير لفيردي وبيتهوفن، والمعزوفات المنفردة لباخ، أو بدلاً من ذلك يستلقي في الفراش، ويقرأ الكتب، ويشق طريقه في رزمة المطبوعات المرسلة إليه مؤخراً من الخالة ميلدر، جزيلة العطاء ودليل درب ثقافته الأدبية، وهكذا أمضى فيرغسون الساعات الأخيرة من تلك الظهيرات في قراءة جان جينيه (يوميات لص)، وأندريه جيد (المزيفون)، وناتالي ساروت (انتحاءات)، أندريه بريتون (نادجا)، وصموئيل بيكيت (مولوي)، وحين لا يصغي إلى الموسيقا أو يقرأ الكتب، كان فيرغسون يشعر بالضياع، عميقاً للغاية في تنافره مع ذاته، لدرجة أنه شعر أحياناً بالتشظي إلى أجزاء منفصلة. أراد العودة إلى كتابة الشعر، لكنه لم يستطع التركيز، وكان يشعر أن كل ما طرق ذهنه من أفكار لم يكن ذا قيمة.

لم يعد يساوره الشك حيال المستقبل، فإذا كان هذا ما يمكن للمرء أن يقوله إنه كتاب، إن كان "هذا" ما يمكن أن تفعله الرواية في قلب الشخص وعقله ومشاعره الأكثر عمقاً تجاه العالم، فكتابة الروايات إذا كانت بالتأكيد أفضل ما يقول به المرء في حياته، إذ علمه دوستويفسكي أن القصص المؤلّفة قد تنجح إلى حد بعيد في الترفيه واللهو البسيطين وحسب، قد تطرح ما اختزنته في داخلك إلى الخارج، وتنتزع خلاصة ما اكتنزته في ذهنك، قد تسعفك وتجمدك وتعريك وتدفعك في وجه رياح العالم الهوجاء..


أما عن توصيات الأصدقاء والكتب التي تعصف بكيان الإنسان وتقلب أحواله يقول أوستر:


عليك أن تقرأ كتاب الصمت لـ جون كيج، يا آرتشي، وإلا فإنك لن تعرف أبداً كيف تفكر في شيء عدا ما يريدك الآخرون أن تعتقده.
فتح فيرغسون الكتاب، وقلب في صفحاته لوقت قصير، ثم وقعت عيناه على هذه الجملة في الصفحة السادسة والتسعين: "العالم مزدحم: يمكن لأي شيء أن يحدث".
في مرتين سابقتين، حدث أن قلب كتاب أحواله وغير في شخصيته، أن نسف افتراضاته عن العالم، وألقى به إلى أرض جديدة حيث بدا كل شيء في العالم مختلفاً على حين غرة- وسيظل مختلفاً ما بقي من الزمن، وذلك ما دام يعيش في الزمن ويشغل مساحة من العالم. كان كتاب دوستويفسكي عن المشاعر والتناقضات في لروح البشرية، وكتاب ثورو دليلين إرشاديين عن كيفية العيش، واكتشف فيرغسون الآن كتاباً قال رون عنه إنه عن كيفية التفكير، وعندما جلس في شقة جده يقرأ "الصفحة الثانية، 122 كلمة عن الموسيقى والرقص"، و"محاضرة عن اللا شيء"، و"45 من أجل متحدث"، و"اللاحتمية"، شعر كما لو أن ريحاً مطهرة شديدة تعصف في دماغه، وترمي خارجاً ما تراكم فيه من نفايات وأنه كان في حضرة رجل لا يخشى أن يطرح الأسئلة الأولى، وأن يبدأ من جديد تماماً ويسير في درب لم يسلكه أحد من قبل، وأخيراً، عندما وضع فيرغسون الكتاب جانباً عند الساعة الثالثة والنصف فجراً، شعر بهيجان وانفعال مما كان قد قرأه،لدرجة أن أدرك أن النوم ليس وارداً، وأنه لن يكون قادراً على إغماض عينيه لما تبقى من الليل.
العالم مزدحم: يمكن لأي شيء أن يحدث.



وكأي كاتب مبتدئ سيعاني في بداية تجربته من التردد والشك وانعدام الثقة إلى أن تثبت له الأيام إن كان يملك الموهبة أم لا

بصورة عامة كان ينفر مما يكتب. بصورة عامة كان يظن أنه غبي وبلا موهبة ولن يصل إلى شيء في الكتابة، لكنه ركب رأسه، مجبراً نفسه على ممارستها كل يوم، على الرغم من النتائج المخيبة في معظم الأحيان، واعياً بأنه لن يكون ثمة أمل له إلا إذا ثابر عليها، ذلك أن بلوغه مرحلة الكاتب الذي يريد أن يكونه لا بد سيستغرق سنوات، أكثر من السنوات التي سيستغرقها جسده حتى يتوقف عن النمو، وكلما كتب شيئاً بدا أقل سوءاً من سابقه بقليل، ثم شعر أنه يحقق تقدماً، حتى لو تبين أن المقطوعة الجديدة عمل بغيض، ففي واقع الأمر لم يكن لديه خيار، إذ نذر نفسه لتحقق ذلك أو فليمت، فعلى الرغم من صراعاته واستيائه من الأشياء الباهتة التي كتبها، كان مجرد قيامه بممارستها يدفعه للإحساس بأنه حي أكثر مما دفعه أي شيء آخر فعله في حياته، وحين بدأت الكلمات تطن في أذنيه، وجلس إلى طاولته، وأمسك قلمه أو لامس بأصابعه مفاتيح آلته الكاتبة، شعر بأنه عار، عار ومكشوف أمام العالم الكبير المندفع نحوه، لا شيء لاح أجمل من ذلك، لا شيء كان له أن يوازي الإحساس بالغياب عن نفسه وولوج العالم الكبير الذي يطن داخل كلمات كانت بدورها تطن داخل رأسه.



 

إلى أن يصل فيرغسون إلى المرحلة التي تصبح فيها الكتابة أهم المواقف الثورية في حياة الكاتب:


"لم يكن مهتماً الآن إلا بأربعة أشياء فقط: العمل على كتابه، وحب سيليا، وحب أصدقائه، والذهاب إلى كلية بروكلن. لا يعني هذا أنه لم يعد يبالي بما يحدث في العالم، لكن، لم يعد العالم يتهاوى فحسب، كان العالم يشتعل، وكان السؤال: ماذا ستفعل، أو لن تفعل، عندما يحترق العالم، وليست لديك الأدوات التي تطفئ النيران، عندما تكون النار في داخلك بقدر ما هي حولك، وبغض النظر عن ما ستفعله، أو لن تفعله، فإن تصرفاتك لن تغير شيئاً؟ التزم بالخطة من خلال العمل على الكتاب. كان ذلك الجواب الوحيد الذي استطاع فيرغسون الإتيان به. اعمل على كتابك عبر استبدال النار الحقيقية بأخرى خيالية، وتمنّ أن يضاف المجهود إلى شيء أكبر من اللا شيء. وبالنسبة إلى هجوم التيت في جنون فيتنام، وبالنسبة إلى تخلي ليندون جونسون عن الحكم، وبالنسبة إلى اغتيال مارتن لوثر كينغ: راقب هذه الأحداث بعناية قدر المستطاع، تشرّبها عميقاً قدر المستطاع، لكن، بخلاف ذلك، لا تفعل شيئاً. ما كان ليقاتل من خلف المتاريس، لكنه سيهلل لأولئك الذين يفعلون، ثم سيرجع إلى غرفته، ويعمل على كتابه.

كان يعلم مدى الهشاشة في موقفه، مدى عنجهيته، مدى أنانيته، الخلل بصدد الفن فوق كل شيء آخر في تفكيره، لكن، إن لم يتمسك بحجته (والتي على الأرجح لم تكن حجة بقدر ما كانت استجابة غريزية)، فسيستسلم للحجة المضادة التي تفترض وجود عالم، لم تعد الكتب ضرورية فيه، وأي زمن سيكون أهم لتأليف كتاب أكثر من سنة يحترق فيها العالم وأنت تحترق معه؟"



فحتى بول أوستر الذي أصبح في السبعين من عمره ما زال يعاني شكوك فيرغسون وشكوك كل كاتب يبدأ كتاباً جديداً، ألشيء الوحيد الذي يثق من حتميته هو عدم امكانية العيش دون كتابة و هو مصر على "الاستمرار في الكتابة"، حتى لو لم تأتيني  العبارات المناسبة. "هناك الإثارة، والكفاح والحماس والحيوية . أعتقد ان الكتابة تجعلني أشعر بشكل أكبر أنني على قيد الحياة ".

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء