هل يمكن أن نقرأ دوستوفسكي بعد الثلاثين
أضيف بواسطة: , منذ ٦ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 3 د



ليس هناك من قارئ عالمي يمكن أن يختلف على أهمية فيدور دوستوفسكي، أو الدور الثقافي والأخلاقي الذي لعبه في حياة القراء بفترة زمنية ما. وشخصياً لا يمكن لي سوى القول أن مراحل نشأتي التي سحرني فيها هذا الكاتب، ما زالت تحتفظ ببريقها، وتستحضر نفسها في أكثر المشاهد الإنسانية داخل صفحات رواياته.

لكن هذا السحر التاريخي، قد بدأ بالتلاشي تدريجياً تحت ضربات الواقع، أو للدقة تحت ضربات الوعي المتطور لعالم الفكر، وما بقي منه، هي ذكريات القيمة الأخلاقية والشخوصية الدوستوفسكية. والسؤال الأساسي الذي يفترض نفسه بقوة في ثقافة اليوم، هل يمكن أن نقرأ دوستوفسكي بعد الثلاثين ؟ والأهم لماذا حقاً لا يمكن استساغة هذا الكاتب في سن متقدمة، رغم سلاسة عوالمه السردية، وعمقه الأخلاقي والفكري ؟.

الرأي هنا، رأي شخصي بحت، لكن يجب التوقف عنده قليلاً، لما يحتويه من أهمية تجريبية، ليس على المستوى الشخصي فقط، بل حتى على مستوى كثير من القراء.

بداية، إن تطور العقل البشري وبالأخص في مجاله الثقافي، يصبح مع مرور الأيام أكثر قابلية للتصدعات والانحناءات والمرونة التي تخلق فيه آليات موازنة تأويلية، ليبرالية اتجاه الفكر، فيصبح التعرّف على الكم الفكري والأدبي المعاصر هو أولوية العقل والثقافة المباشرة، فمرحلة التعرّف على الأدب العالمي والفكر الإنساني، كدوستوفسكي وبلزاك وماركيز وجويس وكافكا ووايلد وهمنغواي وبورخيس، ستتلاشى تدريجياً ليتعامل الذهن بتطوراته مع عوالم أكثر انسيابية وحضوراً معاصراً، فيبدأ بتلقي ما لا يعرفه خارج كلاسيكيات الفكر، وشراهة البيوغرافيا التي يمتاز بها أولئك الكتّاب، وهذا أحد الأشكال التي تجعل تعامل العقل المتقدّم مع المنجز التاريخي للفكر على حساسية تلامس مشكلة الإنسان المعاصر. فتبدأ عملية الشرخ بالتقبل لذاك الفكر.

هذا أحد الجوانب المهمة، لكن في جانب آخر وهو خاص بدوستوفسكي دون كلاسيكي الأدب، تكمن المعضلة برؤى فيدور نفسها وطريقة تعاطيه مع أدبه وأفكاره.

عالم وشخوص فيدور تنقسم إلى قسمين، وضاعة شخوصه التي تخلق جانباً تهكمياً وكوميدياً، وبالأخص في كثير من مشاهده الروائية التي تحمل جانب التذلل والترجي في عالم المال، والميلودراما المفرطة لأبطاله، وهذا الجانب الثاني هو بتصوري المشكلة الأساسية لعدم استساغة دوستوفسكي بعد الثلاثين. الإحساس الطاغي بالانكسار والبؤس وخلق المأساة التي تجعل جميع أعماله تدور في الفلك الأخلاقي الديني للوصول بالإنسان إلى عالم مثالي، فإلى أي مدى يمكن للقارئ المعاصر الذي ترسخت فيه كل أشكال معضلات الإحساس الوجودي أن يستمر في الدوران داخل حلقة البحث عن مثالية دوستوفسكي ؟.

إن القارئ الناشئ يمكن أن يشاهد جمالية عوالمه وضرورتها لتكوين شخصية أكثر إنسانية، لكن في مرحلة متقدمة، فإن فيدور سيصبح عبئاً أخلاقياً داخل حياة معاصرة ومجنونة. لأن طبيعة الميلودراما وعظية، وهو ما لا يناسب العقل الأكثر انخراطاً في الواقع. هذا بالتأكيد لا يلغي عبقرية ذلك الروسي العتيق وحضوره الذي لا يزول، لكننا نتحدث عن صورة فاعلة تاريخياً قد بدأت تتحول إلى أيقونة جامدة، تصبح فيها قراءة هذا الأديب تخضع لمنطق المهمة والواجب .. ببساطة أن تكون قارئاً أو مثقفاً لم تمر يوماً على عمل لدوستوفسكي، فأنت في موضع تشكيك عقلي من قبل القراء المعاصرين أو حتى النقاد التاريخيين.

هذه التهمة المرعبة التي تواجه كل قارئ أو مثقف، تفترض نفسها لإدخال القارئ في المغامرة والغوص داخل فيدور، لكن في مرحلة عمرية نضج فيها الوعي، دون تجربة قراءته في النشوء أولاً، تجعل فهمه وتقبله أكثر صعوبة للتضاد بين مأساة نصه ومثاليته وبين عقل القارئ الناضج اتجاه أزمته الوجودية في الواقع. هذا الصراع المخفي داخل الدماغ يفترض قراءة خاطئة (بشكله الأعم) ويصبح تحليله أو نقده أقرب للمسايرة والمجاملة الثقافية، لاعتباره أيقونة.

فيدور دوستوفسكي كاتب عظيم وعبقري بلا شك، وهو حالة متفردة في التاريخ الأدبي والفكري، لكن قراءة أعماله في سن متقدمة تجعلنا نمارس القراءة من منظور الإعجاب وليس التحليل أو تكوين الشخصية الإنسانية التي من المفترض أن تتكون في مراحل أولى من النشوء والتطور العقلي، وهو ما يجعل أي شخص يقرأ فيدور بعد الثلاثين ذو نزعة ارتباكية لرفضه القطعي لتلك الميلودراما المحزنة للشخوص الخاسرين جميعهم. لا أحد ينتصر لدى دوستوفسكي.

وأعتقد بأن قراءة هذا الكاتب يجب أن تتم في مرحلة النشوء العقلي قبل أن يتقدّم.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء