الثنائي سارتر _بوفوار و
أضيف بواسطة: , منذ ٩ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 5 د


ها قد وجدا المخرج لمتاهة استمرت آلاف السنوات. المخرج من أبواب تصفق، وأكاذيب بائسة، وأنماط شنيعة من الطلاق، ويوميات تطفأ في رتابة البريق المتلألئ للقبلات الأولى. حيث أزال هذا الزوج المرموق في مكان ما من شارع السان جرمان العريق، في سنوات الثلاثينات من القرن الماضي، تلك التعويذة الأزلية التي طالما قبعت فوق الحب وأثقلته. وباتت الشفافية ممكنة، أخيراً. ولم يعد لفخّ الغيرة من مكان. وغلبت المعاناة. رباط عاطفي متين ومطلق ومع ذلك غير حصري. ها هي أسطورة "عشاق مقهى فلور"، والمسرحية الأولمبية التي لعبتها دو بوفوار حتى نهايتها، متذكرة إياها وهي مفتونة بملحمتها الذاتية.

كانت الحقيقة أقل مجداً، نعرف ذلك منذ أن تتابعت المراسلات الخاصة والتعريات العنيدة بينهما.. أكان حباً، ذلك الرباط الذي جمع هذين المفترسين ذوي الدم البارد؟

الحب الضروري!

هل كان جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار يكذبان في ما يخص حياتهما العاطفية؟ هل كانا يداريان خيبتهما، مخفيان، بحالة من التنكر، موقفاً يكاد يكون لزوجين عاديين. أهو "حب عابر متكرر" ما سيتيحه لهما "حبهما الضروري"؟ خيانة، والتي، كي تستمر تبادلية وطقسية، كانت برجوازية ثابتة. ها نحن نسمع من يتناولها بسخرية لاذعة، كما أكدت الروائية دوريس ليسينج بعد حصولها على جائزة نوبل في أكتوبر من عام 2007 بعدة أيام، إذ قالت أنها لم تصدق أبداً هذا النموذج من "الثنائي الثوري المعدني" وبدت لها دو بوفوار "أشبه بامرأة" وكذلك بدا لها سارتر "أشبه برجل".

لكن إذا نفينا الأصالة عن ارتباط سارتر وامرأته "السارترية العظيمة" نكون قد أطلقنا عاصفة تفوق ما أطلقته النسويات في الماضي حين وصفوهما كزوج من العشاق، نجيا بأعجوبة من التآكل التقليدي. "زوج من الكلمات والأفكار المتبادلة"، تلك كانت العبارة التي كتبتها دو بوفوار لتصف علاقتها بسارتر.

سريعاً ما أصبحت علاقتهما علاقة عقلية بحتة. إخلاص صلب لا يخلو من حنان جارف بالتأكيد. أما الجنس والحرارة والوساوس والدموع فكانت مع الآخرين بلا شك.

كثيرات مررن في حياة سارتر مثل دولوريس فانيتي، والحب الروسي الكبير لسارتر، لينا زونينا التي أهدى لها كتابه الكلمات والتي ألهمته بما لا يقل عن 600 خطاب حب لم يفصح عنها للجمهور إلى الآن.

الحب قلعة داخلية حصينة!

قليلون هم الفلاسفة الذين سيذهبون بعيداً كما فعل هذا الزوج في إدراكهما الحميم للأسر الناتج عن التملك والقابع في نوع خاص جداً من العلاقات اسمه الحب، هذا التملك الذي لا يحوي سوى القليل من الأشياء إلى جانب رغبة يسيرة في الهيمنة الجنسية والنفسية.

فلنخاطر بطرح فرضية ما: المؤسسة سارتر-دوبوفوار ليست زوجاً من العشاق، ولا هي شراكة مؤسسية أقيمت بين "ماركتين" ثقافيتين مرموقتين. إنها متراس متين في وجه العذاب العاطفي الذي عرفا تفاصيله الدقيقة أكثر من أي شخص آخر. إنها "قلعة داخلية"، قلعة ذات معقلين حصينين في مواجهة الهاوية التي قد نغرق فيها بسبب الحياة العاطفية.

اللقاء

يمكن أن نصف لقاءهما بأي شيء سوى صاعقة حب. كانت دو بوفوار فتاة فقيرة لأب سلطوي مهملة المظهر. وكانت غارقة في حب رينيه مايو، شاب مفتول العضلات وجنسي للغاية. أطلق سارتر عليها لقب "فالكيري" نظراً لشخصيتها المحاربة العذراء، ولقامتها الطويلة. في حين لم يبلغ طوله متراً وستين سنتيمتراً. لم تكن عاشقة، بل وجدته قبيحاً بمنتهى الوضوح، واختارته نكاية في الشاب الذي أحرجها بعد الحصول على الشهادة في عمر الواحد والعشرين. كتبت السيدة دو بوفوار في سنوات نضجها في المذكرات: "لبّى سارتر أمنيتي التي كنت أحملها وأنا في الخامسة عشرة، إذن كان القرين، ففيه وجدت كل سمات شخصيتي محملة باتقاد. حين تركته في بداية شهر أغسطس، عرفت أنه لن يخرج من حياتي أبداً". ولكن الأمر كان أكثر اختلاطاً في عقل الفتاة الشابة.

"أحتاج إلى سارتر وأحب مايو. أحب ما يسببه لي سارتر، وأحب ما عليه مايو". كما أكدت أن ما بينها وبين سارتر لم يكن اتصالاً شهوانياً على الإطلاق بل "هي السعادة". وشعرت معه الفتاة خارقة الموهبة، لأول مرة في حياتها، أن هناك من يسيطر عليها فكرياً. إنه اختيار بين الإعجاب الرائق والمشاعر بين أفضل مدرب فكري على الإطلاق وبين مدلل الجسد. سيقول البعض: ليس هذا هو الحب، ليس أن نحتاج ما يحمله لنا الآخر. وسيرد آخرون: بل هو الحب بعينه. إنه هذا الخزي الرائع أمام من يتجاوزنا للمرة الأولى في حياتنا.

الاتفاق

منذ البداية، وضعا الاتفاق الشهير بينهما الذي يقضي بالحرية الجنسية والعاطفية. واعتبر المشتركون في مجلة لوفيجارو في سنوات الخمسينات الأمر بمثابة فضيحة لهم. وكمتعلمة جانبها صواب التعبير، عبرت دو بوفوار عن ذلك قائلة: "لقد شرح لي أن ما بيننا هو حب ضروري، وقد يكون من المناسب أن نمر بحب عابر". إذن، فهذا الاقتراح جاء من طرف سارتر. وكما قال هو في يوميات الحرب الغريبة: "الرجل العظيم" عليه أن يحافظ على نفسه حراً.

إنه اتحاد اختياري له توابع متعددة تدور حولها بشكل موسمي. إذن، فقد كان حبهما مجزأ منذ البداية.

ولكن ماذا عن الغيرة؟ لا تخطر على البال، شريطة أن نحكي كل شيء، كما أكد الشاب سارتر. وهكذا لم يشعر أي منهما أنه ملقى خارج حياة الآخر، كما لم يعان من آلام تفوقه المحتمل. غريبة هي تلك العقيدة الراسخة القائمة على سلطة الصراحة. أمن غير الممكن أن نرى في هذه الفكرة، القائمة على أن الاعتراف بالجريمة يبطل كونها جريمة؟ هل هو نوع من التقديس المسيحي للاعتراف؟ إنه ملمح من ملامح الأخلاق البرجوازية أيضاً. أن تكون شريفاً حتى في الفسوق.

ألا تكذب، وأن تبقى فوق الشبهات. إنه خليط عقائدة غير مسبوق على كل الأوجه. في منتصف الطريق بين السذاجة المطلقة والسخرية التامة.

وسواس العاطفة

يمكن أيضاً أن نفسر هذا "الاتفاق" كمتراس لمواجهة العذاب العاطفي. هل يمكن أن نرى فيه حب ميت، ومتحنط ليحتفظ بشكله الخارجي، تحول في عمقه إلى مجرد صداقة تستطيع بهذه الكيفية أن تستمر وسط الشفافية؟ أن يشكلا "نحن"، ويصدّرا هذه البداهة التي لا تتغير مثلها مثل مومياء، ويتلاعبان حتى يجدا نفسيهما أمام فشل الحب الذي يُعاش فعلياً.

يعتقد سارتر أن الغيرة هي "أكثر المشاعر سخفاً" ، والتي لم يتمن أبداً أن يعيشها ولم يجربها مع دو بوفوار أبداً. فهل ينطبق الأمر مع بوفوار؟

البوح

غالباً ما بدا لدو بوفوار أن حياتها بالكامل كانت قائمة على كذبة هائلة. على لسان فرانسواز ، شخصية دو بوفوار في رواية الضيفة، والتي كانت تمثل القرين للكاتبة، جاءت تلك العبارة: "إن عدم التشارك في كل الأمور، لهو الخيانة الأسوأ، وما من خيانة أخرى ممكنة".

الحب خطر قاتل للمرأة

عند قراءة الجنس الثاني، نلاحظ أن كاتبته لم تكن متفائلة على الإطلاق إزاء الفرص المتعلقة بالثورة التي أحدثها الزوج سارتر-دوبوفوار في سنوات الستينات حيث أصبحا مثالاً للفوضى الجنسية اللاهية الجديدة. بل ونشعر أن فرقاً راديكالياً كان قائماً وسيظل ، ربما للأبد، في نظر دو بوفوار، بين الرجل والمرأة في العلاقة العاطفية. وهو ما نظرت له دو بوفوار بحماسة مريرة، في نهاية تلك الدراسة الفكرية المهمة، التي ظهرت في عام 1947 والتي أصبحت أحد أهم الأعمال التي تحدثت عن النسوية العالمية. هنا ننفذ إلى قلب الفكر البوفواري عن الحب، تلك الكلمة "التي لا تحمل المعنى ذاته عند كلا الجنسين" كما قالت هي معتمدة على كتاب العلم المرح لنيتشه.

"إن اليوم الذي ستتمكن فيه المرأة من الحب بقوتها لا بضعفها، لا لتهرب من نفسها بل لتجد نفسها، لا لتمحو بل لتتأكد، لهو اليوم الذي سيكون فيه الحب بالنسبة لها، كما هو بالنسبة للرجل: مصدراً للحياة وليس خطراً مميتاً". لا نعرف ما إذا كانت دو بوفوار نفسها، عند كتابة تلك السطور، تعتقد بأن هذا اليوم قد حل بحياتها أم لا.

أحببت شخصاً من أعماقي

دائما وأبداً في نهاية حياته كرر هذه العبارة "ستظل هذه الحقيقة للأبد، أنني أحببت شخصاً بكل قواي، من دون عشق أو روعة، ولكن من أعماقي". بهذه العبارة وصف سارتر علاقة استمرت طوال حياته. من الصعب تقييم نجاح الحب أو فشله. مستحيل تقريباً، بل ومن الغباء أن نفعل.

يبقى السؤال بلا إجابة. سؤال حول أي نوع من الحب هو الذي ألهم سارتر عند كتابة صفحاته الأكثر جمالاً والأكثر طمأنينة والأكثر موضوعية عن الحب، أهو حبه "الحميم" مع دو بوفوار أم علاقات الحب الموازية "العشقية والرائعة"؟ ربما الاثنين معاً. يعدّ الحب قضية متعبة عند سارتر إلا أنه قضية برّاقة أيضاً.

..
من كتاب "الفلاسفة والحب" بتصرف
تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء