قارئ وعشرة أفكار ليست للبيع!
أضيف بواسطة: , منذ ٩ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 8 د

أمير تاج السر طبيب سوداني وهو ابن أخت الكاتب المعروف الطيب صالح. كتب عدة روايات لاقت نجاحاً كبيراً منها: "سيرة الوجع" "مهر الصياح" "زحف النمل" "توترات القبطي" "العطر الفرنسي" و"صائد اليرقات".

في كتابه "ضغط الكتابة وسكرها.. كتابات في الثقافة والحياة" مجموعة مقالات تفصح عن شخصية الروائي أمير تاج السر كقارئ نهم يعتبر القراءة أسلوب حياة نشأ عليه منذ الطفولة، ويقدم فيه رؤيته لأزمة القراءة والنشر والكتاب الورقي مقابل الإلكتروني وظواهر الكتابة والكتب الأكثر مبيعاً وانتشاراً وكثير من المواضيع التي تهم الكاتب والقارئ.. مؤكداً على أهمية دور القارئ الذي يصنع الكاتب ويدعمه ويقرأه وأنه يتوجب علينا "أن نستعيد القارئ الذي كان في عهود سابقة، أو نخترع قارئاً جديداً، وناقداً جديداً، وربما يأتي اليوم الذي نحصل فيه على ما أسميه: القارئ الداعم، أي القارئ الذي يشتري الكتاب، بمحرد الإعلان عن قرب صدوره، ويجلس متشوقاً ذلك الصدور، حتى يقرأ".

فيما يلي عشرة أفكار طرحها أمير تاج السر في كتابه "ضغط الكتابة وسكرها" نقلناها بتصرف..

 

1- أفكار للبيع!

كانت رسالة غريبة، تلك التي وصلتني على بريدي الإليكتروني، من قارئ نهم، ومتابع دقيق للشأن الإبداعي، وقرأ لي أعمالاً ربما أكون أنا نفسي لا أتذكرها، كما وصف نفسه. كان القارئ المتابع، يعرض علي أفكاراً للبيع، بمعنى أن أدفع له مبالغ من المال نظير تزويدي بأفكار جديدة، أصنع منها روايات عظيمة، فهو يملك حصيلة كبيرة من تلك الأفكار، ولا يستطيع كتابتها لأنه لا يملك موهبة الكتابة، وذكر أنني أول شخص يعرض عليه هذا العرض لأنني روائي جيد، ولكن سيسعى إلى آخرين إذا ما رفضت عرضه!

 

2- المكتوب وعنوانه!

في رأيي إن "عنوان الكتاب" بجانب جاذبيته، من المفترض أن يحمل دلالة ما، أو يشكل مفتاحا يدور في قفل النص ويفتحه، وليس مجرد اسم رنان بلا معنى، حتى لو ساهم في ترويج الكتاب، لأن القارئ الذكي لن يكف عن التساؤل بعد أن يقرأ النص ويبحث عن رابط له بالاسم ولا يجده، وربما يسعى للبحث عن الكاتب وسؤاله، وغالباً ما يحس بأنه انخدع حين اقتنى كتاباً، لا صلة بين اسمه ومادته. من الأسماء العظيمة التي، كانت بالفعل مفتاحا لنصها، وقوية في الحفاظ على إيقاعه، "مئة عام من العزلة"، الرواية الأشهر لماركيز، و"مديح زوجة الأب" لماريو يوسا، و"الوله التركي" للإسباني أنطونيو غالا، كل واحد من هذه الأسماء، كان رائعاً ومطابقاً بشدة لمضمون الكتابة. ومن الأسماء العربية أعجبني اسم: "تحت سماء كوبنهاجن".

 

3- حفلات البحث عن قارئ!

لدى كتاب الغرب لا يوجد مصطلح اسمه "البحث عن قارئ"، ولا يوجد قلق ولا أناقة بحلل جديدة زاهية، حين يعلن عن حفل توقيع في أي مكان، لقد أنجز الكاتب المتفرغ تماماً للكتابة، عمله، وأنجز الناشر طبعات عدة، بعضها بغلاف سميك لهواة تزيين المكتبات بكتب لا تصل إليها عوامل الدهر، وبعضها بورق عادي فاخر لمتعة القراء الميسورين، وطبعات شعبية جداً، تصل حتى لعمال الشحن والتفريغ، ومحطات تزويد السيارات بالوقود، القارئ هو من يصنع الأسطورة، من يحول الكاتب إلى نجم شديد التوهج، ومن يسعى لاكتشاف كاتبه، ومن ثم متابعته بعد ذلك أو تركه، وليس بغريب أبداً أن تصل طبعات الكتب هناك إلى ملايين النسخ، وتنفذ بسرعة، كما تنفذ أنابيب البوتاجاز في بلاد كثيرة من الوطن العربي.

 

4- Books Delivery!

في حوار مع إحدى المجلات العربية، سئلت عن رأيي في القراءة، هل هي هواية أم عادة؟ رأيي أن القراءة ليست بالضرورة عادة أو هواية، وإنما تربية خالصة نتربى عليها منذ الصغر، وتصبح جزءاً أساسياً من التكوين الروحي لنا، أي ليست كالهواية التي يمكن الإقلاع عنها تحت أي ظرف، ولا العادة التي ربما نضطر لتركها يوماً، هي أعمق من ذلك كثيراً. أذكر أننا كنا نعيش في مدينة بورتسودان الساحلية، وكان جزءاً من التربية لدى والدي أن نقرأ في كل أسبوع كتاباً، أي حوالي الخمسين كتاباً في العام، قانون صارم نشأنا عليه، وشارك في فرضه صاحب مكتبة اسمه رفعت، كان يملك مكتبة متوسطة في سوق المدينة، لكنه يربطها بكل ما يصدر داخل البلاد وخارجها، وكان أطرف مافيه أنه يقوم بإيصال الكتب إلى المنازل، راكباً على دراجة نارية من ماركة فيسبا التي انقرضت الآن. تلك الخدمة التي لم تكن معروفة وأصبحت الآن واحدة من أهم الخدمات، ليست في مجال الكتب بالطبع ولكن في مجال الطعام! كنا نعرف الموعد الذي يأتي فيه رفعت، لا يطرق الباب، ويلقي بالكتاب المغلف في ظرف سميك من أعلى الحائط ويمضي، ونتقاتل جميعاً على ذلك الكنز، من يقرأه أولاً.. وعن طريق هذه الخدمة الفريدة، قرأنا في سن مبكرة مئات الكتب التي ربما لم يقرأها الآخرون إلا في سن متأخر..

 

5- مجتمعات القرّاء الافتراضية!

الآن توجد على الإنترنت، مئات المواقع التي تشجع على القراءة، التي تساهم في توزيع الكتاب، فالذي تعجبه رواية أو مجموعة شعرية، لا يحتفظ بإعجابه داخله، وإنما يبثه لأصدقائه ومعارفة، الذين يسرعون باقتناء الكتاب، ويتحدثون عنه بعد ذلك. منتديات القراءة تلك، أصبحت تقوم بمهام المقاهي الثقافية التي كانت سائدة فيما مضى، وقد جلست في العديد من تلك المقاهي أيام بداياتي في مصر ورأيت كيف كان الناس يبدون آراهم في الكتابة، وكيف أن كتابا مغموراً، سطع فجأة وسطا على الذهن القارئ، لأن عدة قراء مهمين، تحدثوا عنه باحترام. ومن تلك الكتب كما أذكر، رواية "العطر.. قصة قاتل" للألماني باتريك زوسكيند التي تتحدث عن صانع العطور القاتل في بحثه عن عطر إنساني، ورواية "عالم صوفي" التي تتحدث عن تاريخ الفلسفة، وكثير من الروايات العربية الجميلة التي ما كان لها أن تنتشر كل ذلك الانتشار لولا وجود من قيمها انطباعياً، بعيداً عن تعقيدات النقد الأكاديمي.

 

6- السيرة الصادقة!

لعل من الكتب التي أعتبرها صادقة، في الأدب العالمي والعربي، لأنها لم تظهر وجهاً صبوحاً، وتخفي آخر متجهماً، السيرة التي كتبها الإسرائيلي "عاموس عوز"، بعنوان: "قصة عن الحب والظلام" وصدرت منذ عدة أعوام، واحتلت مرتبة جيدة في توزيع الكتب. عاموس لم يكتب بقلم نظيف منزه عن شوائب السقوط الحتمي لكاتب يهودي من شرق آوروبا، عاش في أرض مغتصبة، باعتبارها أرضه. فقد كتب بقلبه حقيقة، كتب عن حبه، وعائلته وسكان شارع بيته، وقراءاته، وعلاقاته العاطفية والجنسية، ونظرته الأحادية المتطرفة للشعب الفلسطيني، الذي لم يستخدم في حقه نظرة الكاتب المثقف، المتعالي على ماكينة الطحن الإسرائيلية، حين تطال شعباً صاحب أرض، يعذب فيها، ولكن تحس به يهودياً عادياً، بلا أي نظرة أخرى. كذلك السيرة العظيمة لجارسيا ماركيز، بعنوان: "عشت لأروي". وأعتقد أن ماركيز، وهو الكاتب الأسطوري، كان بإمكانه حذف كثير من مشاهد التشرد والضياع من تلك السيرة الصادقة، لكنه لم يفعل، وأبقاها هكذا، بكل ما فيها من إشراق وعتمة، من رمل صاف، ووحل تخوض فيه حتى الركبتين.

 

7-  الأكثر مبيعاً والأكثر انتشاراً!

في عام 2008، كتب في الصحف، أن رواية لي اسمها "زحف النمل" صدرت في القاهرة، كانت من أكثر الكتب مبيعاً، في معرض القاهرة الدولي للكتاب ذلك العام، واكتشفت أن ما بيع منها نسخ عادية، لا تتعدى المئة نسخة! حين ينشر في صحيفة أوروبية أو أمريكية، أن كتاباً ما، هو الأوسع انتشاراً، لهذا الموسم، أو من أوسع الكتب انتشاراً، فإن ذلك لا يكتب عبثاً، أو مجاملة، ولكن بناء على قراءات مكثفة، راجعت الكتاب بخبرة، وشوقت لقراءته، بناء على عمل مضن يقوم به محررون أكفاء، لا هم لهم سوى الثقافة، يتقصون في دور النشر ومنافذ البيع، ويطاردون معارض الكتب هنا وهناك قبل أن ينشروا تقاريرهم، وبالتالي هم يتحملون المسؤولية كاملة، وتقع على عاتقهم جريرة أن يروجوا لكتاب، ربما لا يكون كما يراه القارئ، أو ربما لا يكون أعلى مبيعاً أو أوسع انتشاراً.

وإذا قيل بأن رواية "قصر الذئاب" مثلا، لهيلاري مانتل، التي حصلت على جائزة المان بوكر، قبل عامين، قد باعت ستين ألف نسخة، في يوم إعلان تتويجها بالجائزة، فهذا حقيقي، بكل تأكيد، ويمكن مشاهدته في الواقع، حين ترى رفوف المكتبات، وقد فرغت من نسخ الرواية، وآلاف القراء، يتزاحمون على الكاتبة، من أجل الحصول على توقيعها. وإذا قيل أن رواية "عداء الطائرة الورقية" للروائي الأفغاني خالد حسيني، الذي يعيش في نيويورك، قد باعت خمسة ملايين نسخة، فهذا أيضاً حقيقي، لأن الناشر يؤكده، ويعرف تماماً، أنه يؤكد رقماً سيدفع مقابله حقوقاً للمؤلف.

 

8- للحنين أحابيل!

"كل ما يكتب بدافع الحنين، يترك أثراً، خاصة السير، لأن الحنين داخلها ومن حولها، يكون في أوج اشتعاله". ما زال يأسرني وصف ماركيز، للحنين الذي يملك أحابيل، لا يمكن الفكاك منها، في روايته "الحب في زمن الكوليرا"، حين تحدث عن الطبيب الذي عاد إلى بلاده بقناعة تامة، تاركاً حياة، مرفهه في أوروبا، ليفاجأ في الميناء حين رست الباخرة، بالحر والرطوبة، ومنظر الذباب، على أنوف الأطفال، والنساء المتسخات، في زينة رخيصة، وهن يرضعن أطفالهن بأثداء ضامرة، ثم ليعود إلى وعيه في تلك اللحظة، ويلعن الحنين وأحابيله.. في الكتابة العربية توجد تجارب كثيرة، للكتابة المغتربة التي تعتمد على الذاكرة والحنين، منها تجربة عبد الرحمن منيف، وتجربة الروائي الليبي إبراهيم الكوني، تلك التجربة الكبيرة المتسعة المدهشة، التي صاغ في داخلها عشرات الكتب، ولم تكن في معظمها عن أحداث خارج الوطن، بينما هو في الحقيقة، يقيم خارج الوطن منذ زمن طويل.

 

9- مئة عام من العزلة.. بنسخة أفريقية!

تذكرني عودة النيجيري الثمانيني تشينوا تشيبي إلى الظهور إعلامياً مرة أخرى، قبل وفاته التي حدثت مؤخراً، في كتاب جديد عبارة عن مقالات كتبها أخيراً وهو في أوج الشيخوخة، على مقعد متحرك، وتحكي أجزاء كبيرة من سيرة حياته واشتغاله بالكتابة، وأيضاً سيرة قارته أفريقيا، تذكرني ولعلها تذكر قراء آخرين يعرفونه، بروايته القديمة "الأشياء تتداعى" التي صدرت منذ أكثر من نصف قرن في سلسلة للكتاب الأفارقة، هو من أسسها بالاشتراك مع دار هاينمان الإنجليزية، وبيع من تلك الرواية ملايين النسخ، وترجمت إلى كل لغات العالم، وما زالت تطبع وتوزع حتى اليوم باعتبارها شهادة حية على زمن الاستعمار وويلاته في أفريقيا، وأيضاً رصدا أميناً لزمن الخرافة، والاعتقادات السائدة والطقوس التي كانت تمارس في ذلك الزمن البعيد. وحقيقة استطاع تشيبي عبر بطله الأفريقي الكلاسيكي، وشخصياته الغريبة، أن يرسم واقعية مريرة، فيها من السحر الكثير، وأعدها المعادل الأفريقي، لرواية ماركيز الشهيرة: مئة عام من العزلة.

 

10- ظواهر أدبية!

هناك كتّاب ربما لم يتعمدوا أن يصبحوا ظواهر أو أساطير، حين كتبوا أعمالهم، وتأتي ظروف أخرى لترفعهم فوق مستوى العادية، وتجعل أعمالهم مقدسة، يهاجم من يسيء إليها، وفي نفس الوقت كلما كثر الحديث عن تلك الأعمال، نبت قارئ جديد لها. القراء بطبعهم يتملكهم الفضول، وكل يحاول أن يقرأ ما قرأ عنه بكثافة، سوى مدحا أو ذما، وحين يطلق لقب فخم على كاتب، وتوصف رواية له بأنها ساحرة وعظيمة، سيسعى عدد غير قليل من المهتمين وغير المهتمين بالقراءة، للركض خلفها حتى يرون تلك العظمة بأنفسهم، أيضاً إن وصف عمل ما بأنه سيء وسطحي، سينبت قارئ آخر ليرى بنفسه ذلك السوء وتلك السطحية.

فمنذ سنوات ليست بعيدة جدا، ظهر في أوساط الكتابة، فجأة البرازيلي باولو كويلو بروايته الصغيرة الخيميائي، التي تتحدث عن راغ للأغنام، يقرأ الكتب، ويطوف الدنيا، باحثا عن الحقيقة. رواية بسيطة وتبدو ساذجة في كثير من النواحي، لكن ما لبثت أن انتشرت بطريقة لا يمكن تصديقها لتوزع بملايين النسخ وبجميع لغات العالم ويصبح كويلو الهاوي الذي ألقى بحجره متأخراً في ماء الكتابة، واحداً من أشهر كتاب الروايات على مر العصور، وله عشاق لا يمكن حصرهم في أي بقعة من بقاع العالم العريض.

ومنذ أقل من عشر سنوات، ظهر الإسباني كارلوس رويس زافون، برواية اسمها "ظل الريح"، تروى على لسان طفل يتيم، في برشلونة، وسرعان ما تحولت تلك الرواية إلى أسطورة، نقلتها جميع اللغات تقريباً، ودخلت في لائحة الكتب الأوسع انتشاراً في العالم.. وفي منتصف الألفية الجديدة، نشر الطبيب الأفغاني خالد حسيني، روايته عداء الطائرة الورقية، وهي سيرة حياة له ولبلده أفغانستان الذي تقهقر حضاريا تحت ظل حكم الطالبان، وتحول إلى بلد مشرد وطارد لأبنائه، لقد كتب حسيني تلك الرواية عقب اجتياح أمريكا لأفغانستان، وقضائها على حركة طالبان، ولعل المناخ الذي كان سائداً بخصوص الإرهاب ومحاربته، ما جعل عداء الطائرة الورقية، رواية واسعة الانتشار بشكل غريب..

وفي عالمنا العربي نجد الجزائرية أحلام مستغانمي، التي ظهرت لأول مرة بروايتها ذاكرة الجسد، في ثمانينيات القرن الماضي، تكسر سوء الظن الذي لحق بسمعة القراءة العربية، بجدارة وتخترع قارئها المتيم الذي سيلاحقها بعد ذلك في كل أعمالها التي تلت، مثل فوضى الحواس، وعابر سرير، ونسيان.كوم..

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء