للطريقِ عيونٌ برتقالية زاهيةٌ بالضوء وموسيقى المطر، وهذا الصديقُ القديم يتلمسُ حبات الماء المتساقطة بودٍ، شعتُ الفرحةُ في عينيه وتمتمَ بأن عرسَ الطبيعة يزفه إلى حبيبة بعيدة .
فكرَ سلمان: في هذا الطقس تتوالدُ الكلماتُ المضيئات، وتغدو إضاءةُ الصباح ونشيدُ الأطفال في حارة قريبة، والشــْعرُ الذائبُ في هدهدة الريح لوحةُ ميلادٍ في العتمة.
فكرَّ : سيرحلُ هو في الدفتر الأخضر، لا بد أن يصل القروي إلى المدينة، ولكن لمَ القروي المسكين ؟ ثمةَ سحابةٌ كلمتّه وبغت أن تكون فرساً جامحاً في طرقات المدينة . لا، لا ، لن تصل إلى واحة . لن تجد نبعاً بحرياً، والكواكبُ ذاتها تتحولُ إلى رصاصات في الصدور .
سلمان يتساءل ماذا ستقول زوجته حين يفتحُ البابَ ويقدمُ إليها الصديقَ الشاعرَ اللهب ؟ إنه تبللَ بالمطر حقاً، وفَقَدَ شيئاً من بريقه واناقته ولكن ليظهرَ كلُ سحرهِ الطفولي أو الجنوني.
توقفَ الشاعرُ في وسطِ الرصيف، شكّـل البرقُ شبكةً ضوئية في السماء، قال كلمته، لكن الرعدَ ابتلعَ الصوتَ .
قال :
ــــ لا أريدُ أن أخدعك . أنا رجلٌ خطر .
ــــ أعرفُ .
ــــ وأنتَ كونتَ أسرةً، ولديك بعض الامتيازات ..
ضحكَ سلمان، لديه عدةُ فصولٍ من الشياطين الصغار ومئات من الكراسات . لديه حملقـةُ المدير في دفاتره وأوراقه وتنصتُ الفراشِ على دروسه، ولديه جفافُ الأيامِ ونضوب الأحلام . قل أيها الشاعر ! كن نغماً في أرضي المجدبة !
قال سلمان :
ـــ أعرف يا كامل . لم أكن غريباً عنك . كنتُ التقطُ أخبارك . كنتُ أتذكرك دائماً . في الوقت الذي أمضي في دربٍ صامت موحشٍ كنتَ أنت عاصفةً مهاجرة.
ـــــ لا أعني هذا، يتدمرُ هدوءك إذا دخلتُ بيتك .
سكت سلمان . كانت عيناه تضيئان كينابيع البحر . ورنتْ في أذنه كلمةُ الدمار فكأن البرقَ أشعلَ كوخاً، واحترقت شجرةٌ في البرية .
وبدا الشاعرُ ذا وجه غريب، قاسٍ، فظ، يتطلعُ باحتقار إلى رجلٍ مغمور، وكأنه يرنو إلى حشرةٍ تزحفُ فوق جدار شاهق.
قال سلمان :
ــــ أتذكرُ إننا كنا معاً، نمضي إلى المدرسة معاً، كم كنتَ فقيراً ! بنطلونك الوحيدُ القصير الذي لم يجفْ تماماً صورتهُ في بالي . أتذكرُ ضحكات الفتيات علينا ونحن نمضي بعيداً عنهن ؟ ولكنك لم تأبهَ بهن، ولا تستطيع كلُ الرقع أن تمنع وقوفك أمام الطلبة وإحراج المدرسين بالأسئلة الغريبة .
نظرَ إليه بدهشة، ولم تخبُ النظرة القاسية، وتتبعَ بيده زخةَ المطر بنعومة، وإذا به يبتسم، كأن طريق المدرسة يتجسد أمامه، وبيتهم الصغير المتداعي، وأباه العجوز، وثيابه المنشورة على الحبل وجلسته في انتظارها، وضربات عصي المدرسين على يديه، والكتب، الكتب التي لا ينفكُ من البحلقة في صفحاتها .. كأن الماضي البعيد كله يتجسم أمامه ويعبق برائحة مخدرة مفرحة مؤلمة .
هتف :
ـــ وتتذكر يا سلمان كيف كنا نجلس عند السور في الزاوية لا نملكُ ثمنَ ساندويتش واحد ؟ وكيف تشاجرتُ مرةً مع مدرس الدين ؟
ــــ نعم، ثم أخذت في الابتعاد عن حياتنا . انطلق بك قطارٌ واقتحمت غابات وسهولاً، تظهرُ يوماً وتختفي سنة .. صوتٌ صارخ في البرية، ولغة نارية، لا أسرةٌ، لا زوجةٌ، فقرٌ وهزال وتجوالٌ دائم.. أعطتك العاصفةُ لسانها والمدينة نبضها .. فكيف بعد هذا كله لا أعرفك ! وأنت نصفي الضائع، هاجسي، شكي !
ــــ ولكنك لم تحول الهواجس إلى وقود !
ـــــ لقد أحلتُها إلى نقود !
اقتربتْ حارةٌ أخرى . تصاعدتْ رائحةٌ عطنةٌ من البيوت المتهالكة المتراكمة، وبدت الدروبُ الضيقة سراديبَ موحشة، أخلاها المطرُ من العابرين وكدسَ الوحلَ فيها .
ومن بعيد بدا مصنعُ الأسماك عملاقاً يحتضن البيوتَ ويهدهدها بحكايات البحر .
توقف الشاعرُ مرةً أخرى . رمقَ الحارةَ باشمئزاز، ربما فكر بجعلها موضوعاً لريبورتاج ساخر، أو قصة مريرة النقد . قال بصوتٍ خافت :
ـــــ إذاً أيقنتَ بصواب دعوتي لك .
ــــ هل لا زلت تتذكرها ؟
ـــــ إنني لا أنسى تلك المحطة . ودعتك بحنو، لم أكن أحملُ حقيبةً ولا تذكرةً، كنتُ أمتلكَ الهواءَ النقي فحسب، انطلقتُ في النار، رأيتُ أشجاراً لا تثمرُ وغابةً من سكاكين وينابيعَ فارغةً وشواطئ جميلة وابتسامات على امتداد السهول، ونساءً من مطاط ورجالاً من فقاعات.. رأيتُ وملأتُ ذاكرتي ولغتي وعدتُ ووجدتُ أنك لم تبرح مقعدك بعدُ .. وكنتَ تحملُ عني أشياءَ موحشة !
غاصَ حذاءُ كامل في الوحل . أشعلَ سيجارة وشمَّ السمك والروث والطين . وانفجرتْ صيحاتٌ قرب أحد الدكاكين، ودُفعَ رجلٌ إلى الخارج فمشى وهو يزعقُ بالشتائم .
وواصل الشاعر :
ــــ وبقيتْ الكتابةُ كامنةً أيضاً .. ؟
ــــ نعم .
ــــ كحجرٍ يختزنُ ناراً، من يقدحه ؟
ــــ المرأةُ شغلتني .
ــــ إذا المرأةُ لم تشعلك فلن تقدر كلُ بروق العالم ..
ــــ تهتُ، لم أجدْ إنساناً، لم أحملْ مصباحاً وأتفرسُ بوجهٍ آدمي، جثمتُ في الظلام، وودتُ لو أدمرَ كلَ سكينتي، وأشعلتُ اللفائفَ وأدرتُ الخيوطَ حول ذاتي، لا إنسانٌ يهزك، ولا كلمة نابضةٌ، لا ومضةٌ.. كم بكيتُ لأن القلمَ تجمدَّ في يدي ورحتُ أحرقُ الخيوطَ وشعريَّّ وجلدي . كم بكيتُ.. لأنني أتذكركَ دائماً وأتساءلُ لم بقيتُ في المحطة وتجمدتُ في مقعدي والمسافرون يروون حكايات عن آفاق لا يحدها البصرُ، عن عوالم مزهرةٍ نابضة ولكني أخذتُ أنتظر وأحتضرُ ..
زمجرتْ السماءُ مرةً أخرى، تتابعتْ البروقُ كمشاعل لعرسٍ سماوي، واندفعَ المطرُ مدراراً، غنتْ السطوحُ وعرائش الدكاكين النحاسية.. ســُمعَ غناءُ الأطفال يمدّون أيديهم من النوافذ..
احتميا تحت مظلةِ أحد الدكاكين . رأى سلمان خطوطَ المطر المستقيمة المضيئة، وملايين الفقاعات السابحةَ فوق الماء .
كانت ثمة مجموعةٌ من الرجال متحلقةٌ حول طاولة صغيرة . تطلعوا إليهما قليلاً ثم خفتت أصواتهم . كان أحدهم لم ينزعْ ملابسَ العمل بعدُ، وقفَ فوق رؤوسهم ثم ضربَ الطاولة بقبضة مدوية :
ــــ لا، لا، لن نسمح له بطردنا أبداً !
ورمقوهما بتفحص، وجلسَ الرجلُ، وطالعهم كاملٌ وقد بدتْ على وجهه ابتسامةٌ أو تقطيبة، لم يره جيداً، وأحس سلمان مرةً ثانية إنه يتجول مع رجلٍ غريب، اختفى الصديقُ القديمُ، ضاعتْ ملامحهُ بين السجون والجرائد، ضاعتْ ضحكاتهُ المدوية التي كان ينزفها في العتمة، وثرثرته التي لا تنقطعُ وأسئلته ودهشته التي لا تتوقف، وحلتْ نظرةٌ هادئةٌ ساخرةٌ تصافحُ الأشياءَ أو تصفعها .
قال كامل :
ــــ إنهم سمكُ المصنع .
ــــ توقفَ المطرُ .
ــــ ليتهُ لا يتوقفُ أبداً !
وضحكَ كاملٌ ضحكة مفاجئة، رمق الزقاق الموحل كمصيدة لا نجاةَ منها، ولعن الفكرةَ الغبية التي قادتهما إلى تأمل الحي الشعبي المليء بالضفادع، أضاف :
ــــ إنهم غاضبون جداً هؤلاء السادة . إن الرجلَ الذي هوى بقبضته على الطاولة كاد يحطمها . إن صاحب المصنع نفسه لا يمتلكُ كلَ هذا اللحم !
نظرَ إليه سلمان بتأمل . ماذا به ؟ في الندوة التي رآه فيها وسحبه منها قبل قليل كان يتوهجُ بالحياة، رمقه الحاضرون بإجلال. أنزلق حذاؤه في بركة. راح يغني أغنية أطفال، صوتـُهُ غني بالتلوين، وألقى كرةً من الوحل بقدمه وضحك بسرور.
كان لديه عناد الصغار وهو يسأل المدرسين، وهو يندفعُ أمام الصفوف، وهو يكتبُ الجريدة الحائطية كلها ويخطب ويغني..
ظهرتْ خمارةٌ في نهاية الحارة . كانت الكهرباءُ معطلةً في الداخل . لهذا وضعوا مصباحاً قديماً في الوسط . رأى سلمان أشباحاً وظلالاً كثيرة . تصاعدَ لغوٌ وضحكٌ .
وأحياناً يخبو كلُ شيءٍ في كامل، يغدو قطعةً من خشب طافحةً فوق الموج . يتجمدُ في مقعده ويصمتُ . يتطلعُ إلى أي شيء ويستغرق في التفكير . لا يحركه الشعرُ أو الفرشاةُ أو الفراشات.
نظرَ إلى الخمارة بارتياح.
ــــ ثمة بشرٌ حقيقيون هنا . ضحكٌ وغناءٌ وطيران من جاذبية العقل . دقوا الطاولات بالكؤوس واسبحوا في النشوة !
ــــ هل تريد أن تدخل ؟
ــــ لا ! ألم تدعني لزيارتك ؟ !
صمتَ سلمان . لعل الوقتَ قد تأخر، وزوجته ستدهشُ لهذه الزيارة، إن عقلها الملتهب لن يقبل بمثل هذه الدعوة اللامنطقية، ولكن كامل لن يعترف بذلك، ربما زاره في منتصف الليل، أو تركه قبل أن يصلا البيت . كان يدعوه لكسرِ كلَ الأشياء الرتيبة المعتادة، وخلخلةِ كلَ ما هو ساكن .
حاول مرةً فأصيب بصداع حاد !