الكلاسيكيات العظيمة، نصوص أطفال
أضيف بواسطة: , منذ ٤ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 4 د

إن المدارس والمذاهب الأدائية الحديثة، تركّز في جميع طروحاتها حول التقنيات، بأنك إن أردت امتلاك أداء رفيع، فيجب عليك أن تراقب حركة الأطفال الفيزيائية، وتتمعن بخيالاتهم الجامحة، وردود أفعالهم حول مسائل معينة. رغم أن التعبير عام، لكن سنتطرق إلى مثالين مختلفين كمدخل لفهم المقصود:

الأول، هو في المسرحية المصرية "العيال كبرت"، حيث من شاهد المسرحية يتذكر بشكل قطعي شخصية يونس شلبي في تقمصه لشخصية طفل، ليس حركياً فقط، بل وعي طفولي، وهو ما جعله يسيطر على تاريخ المسرحية مقارنة بسعيد صالح وأحمد زكي، رغم الأبعاد الدرامية لتلك الشخصيتين وأهميتهما في الفعل المسرحي أكثر من شخصية يونس شلبي، لكنه ربط تاريخ مسرحي كامل بأداء عاطفي بدائي لطفل.

الثاني، نشاهده في بكاء جون كازال في فيلم العراب، وهو رجل مافيا، عندما يقف عاجزاً أمام والده الميت، مارلون براندو. عندما يجلس كازال باكياً لا حول له ولا قوة أمام موت والده، لا يستطيع فعل شيء بإنقاذه. كل ما فعله هو الانكسار والجلوس والبكاء، كطفل يريد لوالده أن يقوم من الموت. لقد تقمّص كازال عاطفة طفولية جعلت هذا المشهد من أهم مشاهد السينما في العالم رغم مرور 50 عاماً عليه.

لقد استوعبت الحركة الفنية في أواسط القرن العشرين، أهمية الطفل البدائي في تشكيل عالمنا الكبير، من حيث فلسفته الوجودية، وخيالاته الجامحة، وسلوكياته غير المفسّرة.

لكن قبل هذا العالم الحديث، في فهم البنية النظرية لجانب فني أدائي، كان يوجد جانب فني نظري بحت ويعتمد على الخيال، وهو النص الذي لا يصلح لأداء حركي، ونقصد به بالضبط، الرواية.

لقد قامت الرواية بتاريخها على نوعين، الأول هو النص الذي يختلف فيه النقاد والقراء على أهميته وبنيتة وعبقريته، وصلاحه وعمق طروحاته أو فشلها، من أمثال نصوص بروست، دويستوفسكي، كافكا، جويس، كونديرا، تولستوي .. الخ. هذه النصوص ما زالت تمتلك خاصية إشكالية بالنسبة للقارئ والناقد، وكل يوم تظهر مسألة يعرضون فيها شكلاً جديداً من الاكتشاف.

رغم عظمة هذه النصوص وخلودها، إلا أنها تبقى حبسية وعي بشري متطور، يحتاج جهداً من الإدراك والتحليل والبحث، مقارنة مع النوع الثاني من النصوص.

النوع الثاني، وهي النصوص التي كُتِبت وتحولت إلى كلاسيكيات، لكن لها طابعاً من وعي طفولي. أليس في بلاد العجائب، لويس كارولرحلات جيلفر، جوناثان سويفتدون كيخوته، ميغيل دي ثربانتسهايدي، يوهانا شبيري. بيل وسباستيان، سيسيل أوبري. الأمير الصغير، انطوان دو سانت أكزوبيري. بينوكيو، كارلو كولودي. حتى ألف ليلة وليلة، تحول جزء كبير منها لقصص شعبية وحكايات ما قبل النوم .. الخ.

هذا النوع من النصوص لا أحد يختلف حول أهميته وتأثيره السابق واللاحق. لأنه يعتمد على مساحات من الخيال والعاطفة والأحداث الإنسانية ذات الطابع البدائي في علاقتنا مع الأشياء المحيطة إن كانت أماكن أم كائنات. لا وجود لفلسفات عميقة وراء النص.

إنها نصوص طفولية صرفة رغم ما تأسست عليه كنصوص جادة وكلاسيكية، وقد تحولت بفعل طبيعتها الهادئة وسلاستها وحكمتها اللاوعظية، مع التقنيات البصرية المتطورة، إلى رسوم متحركة في نهايات القرن العشرين.

بالعودة إلى جميع الأنماط الأدبية، وتفحصها والوقوف قليلاً عند بعض النصوص التاريخية، نلاحظ أمراً، بأن الشخوص في الأدب قلما توجد فيها شخصيات طفولية حاضرة ومؤثرة، لكنها في السياق العام لا تخلو من الفعل الطفولي.

فمشهد تكرار جملة (أكوا، أكوا، كو، كي، أكوا، أكوا، أكوا) في مسرحية الضفادع لأرستوفانس، لا يمكن أن تخطر صورة ذهنية في رأسك، وأنت تقرأ المشهد، إلا لطفل يكرر ببلادة ودون وعي أو فهم لمثل تلك الكلمات. مشهد أريستوفانس ليس سوى تجلي خيالي لا يوجد إلا في عقل طفولي. ذات الأمر نشاهده في سلوك آخيل عندما ينزوي غاضباً عندما يُجرّد من غنيمته "الكاهنة بريسيوس". إنزواء آخيل في إلياذة هوميروس، هو سلوك طفولي حزين، ليس ذو قيمة، ولا يؤثر على تغيير حقيقة تجريده من غنيمته.

مئات الآلاف من المشاهد في النصوص التي تعبّر عن سلوك ووعي طفولي لأعظم الشخصيات التي تعيش معنا حتى اليوم. يمكن أن نقرأها في كل سطر وفي كل شخصية موصوفة بالعمق والفلسفة والتفكير المختلف، أثناء الإطلاع على كتاب ما.

لكن كل هذا يدلنا على مسألة مهمة، أن النص الذي لا يحتوي هذا البعد السخيف والعفوي من سلوك الأطفال غير المفهوم، هو قطعاً نص تقليدي في محاكاته ليكون نصاً عظيماً، دون أن يصل إلى ذلك المستوى.

حتى إيفان كارامازوف عندما ينهار في المحكمة، فقد أراد دويستوفسكي لبطله أن يعيش تجربة الانكسار الطفولي. النص العظيم هو من يحمل غوغائية طفولية تجعلنا نترسّخ في العاطفة عميقاً دون أن ننسى.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء