سارتر وبوفوار: حب في زمن الحرب..
أضيف بواسطة: , منذ ٦ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 5 د



زحفت القوات الألمانية نحو بولندا. أُلصقت الإعلانات هنا وهناك في باريس تدعو إلى التعبئة العامة لجميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والأربعين. في أصيل ذلك اليوم، عاد جان بول سارتر إلى فندق ميسترال لحزم حقائبه. نزل هو وسيمون دو بوفوار إلى القبو ليخرجا حقيبتي ظهر وجزمتين.

قضى سارتر ساعاته الأخيرة الثمينة مع بوفوار. حملا الحقيبتين وذهبا لاحتساء قهوة الصباح في مقهى الدمو. كانت نظرة خاطفة أخيرة على باريس قبل الحرب. من الآن فصاعداً ستغلق المقهى أبوابها في الحادية عشرة مساء. كانت باريس مظلمة وصامتة، القمر محتجب وراء السحب، وأضواء الشوارع خافتة والستائر الزرقاء السميكة مسدلة على نوافذ المقهى.


في السادسة وأربع وعشرين دقيقة وصل القطار، ولكن لم يكن ثمة أحد يريد أخذه ، فقرر سارتر أن يأخذ قطار السابعة وخمسين دقيقة. ذهبا واحتسيا القهوة. وأكد سارتر لبوفوار مرة ثانية أنه لن يكون ثمة خطر في نانسي. كان هذا ببساطة انفصال آخر. وسيكتبان إلى بعضهما بانتظام. وسترسل له رزماً من الكتب.

عادا إلى المحطة . كان هناك الكثير من الناس حولهما، بضمنهم رجال يحملون الحقائب. شعرت بوفوار بالدموع تخز عينيها. ضمها سارتر إليه، ثم راقبته وهو يسير إلى رصيف المحطة بخطوات ثابتة. بدا صغيراً وغير حصين، قد لاح لها بأنه كان متوتراً. استدارت عائدة باتجاه المخرج. قالت في نفسها، إن استمرت في البكاء لساعات فلن تستطيع إيقافه. ستسير من دون توقف وإلا سينفجر قلبها.


كتب إليها:

"وجهكِ الصغير، عيناك الطافحتان بالدموع اللتان رأيتهما عبر زجاج مقصورة القطار، غمرتاني بالحب. كم كان ذلك رائعاً يا عزيزتي بيفر، لم أعرف شيئاً أكثر جمالاً في العالم من ذلك الوجه. لقد جعلني أشعر بالقوة وملأني بذلك الخزي لاعتقادي بأن ذلك "لأجلي" كان جميلاً جداً".


"الحرب!" كان ذلك في أصيل يوم 3 أيلول 1939. في صباح ذلك اليوم، أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا. الآن ينبغي على فرنسا فعل ذلك أيضاً. ألقت بوفوار نظرة على عناوين الصحف الرئيسية وانفجرت بالبكاء. كان سارتر، بصفته جندياً احتياطياً، في خطر أقل، ولكن إلى متى؟ قالت بوفوار في نفسها، إن قُتل سارتر فسوف تنتحر. كانت تعزي نفسها بطريقة غريبة.


طوال أسابيع أتلف الهلع صحتها، فغدت غير قادرة على الاستقرار والعمل. عاشت من أجل رسائل سارتر. كتبت تقول: "انفجرت الأحداث فوقي، وتحولت إلى شظايا".


أُرسل سارتر للعمل في وحدة الأرصاد الجوية. كانوا أربعة أشخاص وباستثناء ما يقومون به من قراءة للرصد الجوي كل ثلاث ساعات، كان لديهم القليل من العمل.


اعتاد سارتر العمل طوال 10 ساعات إلى 11 ساعة في اليوم، وحقق تقدماً ملموساً في روايته "سن الرشد". وأخبر بوفوار بأنه سيرسل إليها فصولها بالسرعة الممكنة. لقد أعطته الحرب منظوراً جديداً، وللمرة الأولى صار يحتفظ بدفتر يومياته. كان يستمتع بحرية الكتابة العفوية،  متبعاً أفكاره إلى حيث تقوده. إضافة إلى ذلك، كان يكتب، على الأقل، ثلاث رسائل يومياً.

أنهى قراءة كتب فرانز كافكا التي جلبها معه، وتمتع بقراءة يوميات أندريه جيد التي أرسلتها له بوفوار. وأعد قائمة بالعناوين التي يود قراءتها. ليس ثمة عجلة، ولا ينبغي على بوفوار إرسالها دفعة واحدة. هل كان ثمة روايات بوليسية جديدة؟ وهل سترسل له العدد الأخير من Francaise Nouvele Revue وأربع رزم من ورق الكتابة، وخمسين ظرفاً؟


كتب سارتر إلى بوفوار معترفاً: "صدّقي أو لا، لقد شعرت بالسلام العميق،  حين كتبتِ بأنك لن تعيشي بعدي إن وقعت كارثة". "لا أحب أن أتركك خلفي، ليس لأنك ستصبحين وجوداً صغيراً حراً يجول حول العالم، وسأغدو غيوراً، لكن لأنك أقنعتني بأنك ستكونين في عالم عبثي.. لكن لا تقلقي، فقد كنت أفكر حول كل ذلك على نحو تجريدي، نظراً لأني موجود في قرية ألزاسية فاتنة، آمن ورخي البال. علاوة على ذلك، أفكر أيضاً، على المدى البعيد، بأنني أريد منك بالتحديد أن تواصلي حياتك القصيرة من دوني: ففي النهاية تبدو الحياة المنتهية قبل أوانها فقداً لشيء جيد. في الواقع، ومهما حدث، لم أشعر أبداً من قبل بهذه الحدة بأنك أنا".


في الذكرى السنوية العاشرة (14 تشرين الأول عام 1939) لبدء علاقتهما، أدرك سارتر، أكثر من أي وقت مضى، كم كان مديناً لبوفوار. لم  يسمع منها شيئاً منذ ثلاثة أيام، وفيما بعد كتب في يومياته: "إن غضبي من تأخر رسائل واندا هو وهم. هذا جدي. أحسست بأن العالم صحراء من دون بوفوار". (ليس لأني فكرت بأنها ميتة، ولكن ببساطة، لم يكن هناك رسالة، وأنا أعيش عالمها وعالمي من خلال رسائلها).

وكتب بعد يومين: "شعرت اليوم بأن كل شجاعتي، وحتى قابليتي لاختبار الحرب نشأتا من يقيني بأن بوفوار قد فهمتني ودعمتني ورضيت بي، ولو لم يكن ذلك لانهار كل شيء ولأصبحت هائماً على غير هدى".


عند دخول هتلر باريس كان سارتر في الخامسة والثلاثين من عمره عندما وقع كأسير حرب بين أيدي الألمان:

في منتصف شهر آب نقل سارتر إلى معسكر قرب تراير في ألمانيا بصفة سجين حرب. وقد أكد لبوفوار أنه مبتهج، إذ لم يكن ضجراً ولا جائعاً. في الواقع، لم يشعر أبداً بأنه حر إلى هذا الحد. لقد أحب أصحابه السجناء، وجد شريكاً جيداً في لعب الشطرنج، وغدا لاعباً جيداً في لعبة البريدج. كان يمارس الملاكمة أو المصارعة مدة ثلاثة أرباع الساعة يومياً. وكان يقرأ هيديغر (كان الضباط النازيون يعطونه بسرور نسخة مجلدة من كتاب "الوجود والزمن") ويكتب دراساته الفلسفية  "الوجود والعدم" كان أقرب صديقين له قسيسين- أحدهما يسوعي والآخر دومينيكاني. وفي أمسيات الثلاثاء كان يلقي محاضرات فلسفية لجمهور أغلبه من القساوسة.

"أنا لست بائساً على الإطلاق، بل أعيش الكثير من اللحظات السارة. صُلْب أنا مثل البلور الصخري أحتاجك لكي أذوب في الماء يا صغيرتي بيفر، أنت الوحيدة التي أسعى إلى إيجادها ثانية. إن وجدتك ثانية، فقد وجدت سعادتي أيضاً ووجدت نفسي".


كتبت بوفوار: إنها لم تكن غير سعيدة، لكنها لم تكن تعيش حياتها الحقيقية، التي كانت مليئة وغنية ومبهجة. كان سارتر هو حياتها الحقيقية. إنها تكتب طوال الوقت من أجله. "أعاني كوابيس دائمة حولك. ستعود.. لكنك لم تعد تحبني، وأنا يائسة تماماً.. أحياناً أبحث عنك في كل زاوية. أعيش فقط من أجل اللحظة التي سأراك فيها من جديد".


منذ سنوات اعتاد سارتر استخدام فكرة "الفردانية" ليخفف من شكوك بوفوار العرضية حول علاقتهما. فكتب لها: "إن كان هناك حاجة لأن نشعر إلى أي حد نحن الاثنين واحد، فهذه الحرب الوهمية سيكون لها، على الأقل، الفضل في جعلنا نرى ذلك". "إنها تجيب عن السؤال الذي يعذبك: ياحبي، أنت لست شيئاً واحداً في حياتي- حتى إنه ليس الأكثر الأهمية- لأن حياتي لم تعد تخصني، ولأنك .. أنت دائماً أنا".


لم تر بوفوار سارتر خلال 11 شهراً. وفي إحدى أمسيات نهاية آذار عام 1941 عادت إلى فندق الدنمارك لتجد حاشية في صندوق بريدها مكتوبة بخط يده: "أنا في مقهى الفرسان الثلاثة". أحست بقلبها قد توقف. هرعت إلى المقهى. لم يكن سارتر هناك. أعطاها النادل حاشية. انتظر سارتر مدة ساعتين، ثم خرج. سيعود بعد قليل.

كان هناك بعض المدنيين إلى جانب العسكريين في معسكرات النازية، قد أطلق النازين سراح المدنيين الذين أثبتوا أنهم لم يكونوا مؤهلين للخدمة العسكرية. وقد زور سارتر ورفيقه القس وثائق تثبت ذلك. فعند إجراء الفحوص الطبية بالغ سارتر في إظهار ضعف البصر في عينه اليمنى، إذ راح يقرأ على نحو مشوش وببطء شديد. وقع الطبيب أوراق إطلاق سراحه.


عاد سارتر إلى باريس إنساناً مختلفاً. مما أرعب بوفوار. لم يسبق أن كانا على هذه الدرجة من البعد. كان قليل الاحتمال متصلباً عنيداً، حافلاً بالانتقادات الأخلاقية اللاذعة. لقد صدم بسبب توقيعها شهادة خطية تعلن بأنها غير يهودية، واشمأز أن يسمع أنها تشتري أحياناً أطعمة من السوق السوداء. وأخبرها أنه لم يعد إلى باريس ليتمتع بحريته، بل ليعمل. إنه يريد تنظيم فريق مقاومة. ينبغي طرد الألمان من فرنسا. اعتقدت بوفوار بأنه مخدوع. هل ما يزال يفتقر إلى فكرة أنهم لا يملكون القوى بوصفهم أفراداً.

ستكتب بوفوار في مذكراتها: "تلك الليلة، واليوم الذي تلا، ثم الأيام التي تلت، أربكني سارتر على نحو كامل. شعرنا كلانا بأن كل واحد منا يتحدث بلغة مختلفة تماماً".

..
تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء