الرمل والياسمين
أضيف بواسطة: , منذ ٨ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 19 د

شـــــــــــــجرة الياسمـــــــين

ــ 1 ــ
جاءتني الضحكة وأنا استعدُ للدخولِ في مملكةِ الظلام الدامس . جاءت وهي ترتعشُ بحزن الماضي وروعة المجهول الآتي ، جاءتْ وقد بدأت آلامي تهدأ وأخذ الماضي يقودني نحو حديقته المزهرة بالدفء والراحة والأحلام .
سبق أن تتبعت هذه الضحكة خطواتي في عالم مترامٍ ، زراتني في الحزن والسجن ، في اليأس والمقبرة ، في الكأس والرسم . . ولكنها اختفت في هذا الشتاء لتعاود الظهور هذه الليلة . إنها المرة الثانية التي تجيءُ فيها ، إنها تنفجرُ في الظلامِ فكأن طفلاً يتسلقُ شجرة وهو يضحكُ ضحكة صاخبة ، أو كأنها صبية تضحك ليلة عرسها . إنها قوية ، مفعمة بالحرارة ودفء القلب صادرة من الأعماق التي تزهرُ فيها البراءة .
لو أنني القيتُ بهذا الدثار الثقيل ، ولملمتُ أطرافي المتعبة ، ونهضتُ لأرى وجهها الطفولي لما وجدتُ شيئاً . إنها تأبى أن تراني ، ستختفي في مكانٍ لا يطالهُ أحدٌ ، سترمقني بحبٍ وألم .
وكأنه ينتظرُ الإشارةَ ، يلبسُ النومُ معطفَه ، ويلقي عليَّ نظرة عجلى ، ثم يغادرُ المنزلَ وهو يصفرُ ويدندنُ ، متجهاً إلى عيون ليست كالجمر .
إنني أسمعُ خطواتها كأنها تمشي على رؤوس أصابعها ، متجهة إلى شجرتها الذابلة . رغم الظلام ستراها ، وستتلمسُ أغصانَها الجافة ثم تتأوه بحرقة . وها انذا أسمعها وهي تقصُ على شجرةِ الياسمين حكاية الرجل العجوز ، إن الشجرة تنصتُ إليها وقلبها الواهنُ لا يكادُ ينبضُ . إن عروقها يابسة ، وأيديها كلها عظام . ستقصُ عليها كيف إنها لم تزر المنزل في هذا الشتاء ، وكيف أن الرجلَ العجوز منعها من الدخول ، ولكنها استطاعت أن تتسلل أخيراً . ولسوف تسقي الزرع جيداً ، ولسوف تجعلُ الأزهار تنبثقُ أخيراً . كالأوار والأحلام . ستبتسم الشجرةُ وسترمقُ وجهَ الفتاة المتلألئ كسنابل القمح ثم ستمدُ أيديها إلى الغيمِ الكثيف المتجمع فوقها وتعصرهُ فوق المنزل والأرض . . عندئذٍ ستشربُ بقدرِ سنوات القحط والموت والعطش . . وستنمو الأذرعُ ويتوردُ الوجهُ وتنبثقُ الزهراتُ كالنجماتِ والشهبِ والآمال . .
وتنفجرُ الضحكةُ مرة ثالثة كرشرشة المطر فوق حقلٍ فتي . إنهذا الصوتَ لكائنٌ تتدفقُ عروقهُ بالدماء وليست بذكرى أو وهم . يجب أن أنهضَ . يجب أن أرى . وأقومُ متثاقلاً . أشعرُ بصدري يتقطعُ ، ينتابني سعالٌ عنيفٌ ، لكنني ألقي الدثارَ جانباً واتجهُ نحو الباب . افتحه فيغمرني الظلامُ والهدوء . لا أحدَ يتنفسُ . لا أحدَ يضحكُ . لا أمسع حتى رفرفة خفاش أو زقزقة عصفورٍ ضائع . صمتٌ عميقٌ كأني أفتحُ قبراً . أشعلُ النورَ فيتسعيدُ المكانُ وجهَهُ المفقود ، وأرى شجرة اليامسين العجوز وقد مدت أيديها إلى أجزاء المنزل فكأن عروقها الضامرة تحضنهُ وتقبله قبلة أخيرة .

ــ 2 ــ
كنتُ قد دفنتُ كتبي ودفاتري والقيتُ فوقها شيئاً من الحشائش والسعف وعزمتُ على قضاء يومي المدرسي في البستان المجاور للمدرسة ، اتصيدُ اليطورَ وأقطفُ اللوزَ ، حتى إذا سمعتُ جرسَ نهاية الحصة السادسة أسرعتُ مع العائدين من التلاميذ إلى البيت . ولم تكن اللعبة بجديدةٍ عليَّ فقد مرتْ أيامٌ كثيرة والبستان أوالبحر أو المقبرة تشهد حضوري كأني جنيٌ صغيرٌ متمرد . ولكن في ذلك اليوم الربيعي ما كدتُ أخطو خطوتين قرب سور البستان حتى شعرتُ بقبضةٍ قاسية تشدني من  كتفي . التفتُ مذعوراً فوجدتها أمامي كالهرة الشرسة وقد أُختطف صغارها . صاحت بي : أهذا ما تفعلهُ كلَ يومٍ ؟ ! وعلى الفور قمتُ بعضِ يدها بقوة مذهلة حتى أحسستُ بالدم حاراً يفورُ في فمي . تركتني فأسرعتُ بدخولِ البستان ولكن كلَ شيءٍ كان في طريقهِ إلى التحول . كانت ثمة آلات وسيارات شحن وعمال كثيرون . كانت الأشجار تــُقطع ، والبركة تهدم والأعشاب تجتث ، والطيور تقتل . ووجدتُ كلَ الدروبِ مقفلة وإنه لا مفر من العودة . وقبل أن أخطو خطوة أخرى انهال عليَّ الضرب موجعاً حتى انهارت قواي . صحتُ وبكيتُ لكنها كانت تقودني إلى المدرسة باصرار . وفي لحظة جنون أمسكتُ عباءتها ومزقتها . طالعتني بكره ضار فصاحت : ولكني لن أتركك ! وجرتني بين التلاميذ ، وفي ساحة المدرسة ، ثم القتني عند غرفة المدير . والتمَّ عليَّ التلامي والمدرسون ، وراحوا يتأملون ثيابي الممزقة ووجهي المنتفخ ودموعي المنهمرة . . ويبتسمون !
وفي المساء اقتربتُ من سريرها وكمنتُ لها في الظلام ، وكلما أرادت أن تنامَ رفستها بقدمي . لم تهتم بي وواصلت رقدتها وهي تشخر وتصفر . وفجأة نهضتُ وصفعتها بقوة وأردتُ أن أقذف بنفسي من الغرفة لكنها أمسكتني وضمتني إلى صدرها ، وعندما رأيتُ وجهها المبتسم يدعوني للدخول في بستان لا يُهدم أبداً ، دخلتُ وأنا أرتعش بالبكاء والفرح .

ــ 3 ــ
رأيتُ وجهها وراء زجاج النافذة .  وجهٌ لم يتغير كثيراً عن أيام الطفولة البعيدة الغارقة في بئر عميقة . إنها تبتسمُ ابتسامتها الرائعة وتدعوني إليها ، لكنيي مقيدٌ في هذا السرير الخشبي وفوقي لوحاتي تمنعني من النهوض . إنها صورٌ لجماجم متناثرة بشعة . . إنني أرتجفُ هلعاً ، وأحاولُ القيام لكن سلاسل غير مرئية تشدني إلى السرير .
وتقولُ اختي : هيا تعالْ ، أخرجْ . جاء الربيع وأنت مقيدٌ بهذه السلاسل .
أقولُ لها : سأنهضُ حالاً ، لن يفوتني منظر الأزهار والفراشات والأطفال يلعبون في الجداول . .
أحاول النهوض لكنني لا أستطيع . إن لوحة فيها صورة شجرة الياسمين وفتاة تضحكُ تمنعني من القيام . إنني لا أستطيع أن أمزقها ، لأنها تدخلُ جسدي ، وكلما حاولتُ تمزيقها وجدتُ إني أعصرُ أصابعي . وسمعتها تضحكُ ثم تغني للقمر . قالت للقمر إنها غادرتْ العالم صبية صغيرة . لم يقبلها شابٌ ولم يسمعها أحدٌ كلمات جميلة ، فهل يقبل هو أن تزوجها ؟ ضحك القمرُ ثم قال إنه على موعدٍ مع امرأة عند الشاطئ . توقف غناؤها فجأة ، مسعتها تبكي وتصرخ : الرجلُ العجوز ! رحل القمرُ وحل الظلامُ والبكاءُ ، وأنا مقيدٌ في هذا السرير الخشبي وفوقي لوحاتي ورسومها الكئيبة تنشرني بمنشارٍ صدئٍ له صوتٌ كالنعي . أحاولُ النهوضَ فلا أستطيع . . ويتمزقُ سمعي حين يصلني بكاؤها ممزوجاً بضحكاتِ الرجلِ العجوز !

ــ 4 ــ
وانتبه إلى النافذة تنفتحُ وتصدمُ الجدارَ بقوة . لقد أيقظني هذا الصوتُ من غفوتي وحلمي . من نومي الرائع وحلمي البغيض . ولكنني رأيتُ وجهها ! إنها لم تزل تحتفظ بجمالها وتألقها ، إنها لم تزل تحتفظ بضحكتها في جوفِ عالم دامس الظلمات . تعالي إليّ أتيها الصبية الضائعة في البرية . تعالي إليّ يا ضياء الياسمين وحزن السنين . لن ألمسك ، لن أضربك ، بل سوف أرسمك . سوف أرسمك بهذه الفرشاة التي اشتريتها لي . هذه الفرشاة التي كسرتها امامك والصقتها بعد رحيلك  . فأنا فنان أرسمُ بفرشاة مكسورة ، وأنا فنانٌ أتنفس برئة منخورة . لو أنك فقط تحضرين هنا لرسمتُ لوحة الحلم . لرسمتك تغمرين السماءَ الزرقاء بأزهار الياسمين ، وأنت تضحكين وتبكين ، وأنت تلونين العالم بالضياء ، وتدعين المحبين للعشق . . فلم تهربين مني ولم تفرين عني أيتها الفتاة المهجورة الهاجرة ؟
 . . . وأنتبه إلى دخول الرجل العجوز غرفتي بلا استئذان وبكل وقاحة . إنه صارمُ الملامح ، غير مستعد لأية هدنةٍ مع الفرح . عيناه باردتان كقطعتي نقد ، وشفتاه يابستان مطبقتان كحجر صلد . إنه يرصدُ الغرفة بنظراته ، يقفُ قليلاً عند ساعة الحائط القديمة التي تركها أبي بعد وفاته . إنها صدئة ، ولا ترن الرنين المعتاد ، غير أنها ماضية في ضبط الوقت بلا توقف . ثم يحدقُ ملياً في اللوحة البيضاء الفارغة التي تقابلُ السرير والفرشاة العتيقة التي تنتظرُ قربها ، والأصباغ المبعثرة كرجالٍ أقوياء عاطلين عن العمل .
إنه يجلسُ بكلِ برودٍ منتظراً مني مجموعة كاملة من الشتائم غير إني لا آبه به . وكالعادة يفتُ منارته السوداءَ ويتكلم :
-  لا تزال اللوحة فارغة وهذا شيءٌ يؤسفُ له . إن الأصابعَ كي ترسمَ لا بد لها من دماءٍ ، وأنت نزفتَ دمك . فهذا وجهك أصفر ، وعروقك بارزة مسودة ، لم يبق فيك سوى العظام وهذه اللحية الكثة . . كيف يمكنك أ، ترسمَ وأنت مجرد هيكلٍ عظمي ، هيا غير طريقة حياتك ، أنا مستعدٌ لإعطائك كمية كبيرة من المال حتى تصبح رجلاً ذا روح .
أتجهُ إلى اللوحة وأتناولُ الفرشاة . سأقضي هذه الليلة في رسم الحلم . لن أصغي إلى ثرثرة هذا الرجل وشكوكهِ التي يزرعها في كلِ مكان . هنا ، في هذه النقطة السفلى من اللوحة ، أبدأ برسمِ الجذورِ ، جذور شجرة الياسمين .
يطالعني ويمضي في حديثه :
-  أنظر إلى نفسك ، إنك تتجهُ إلى الشيخوخة ، وحتى الآن لم تزوج . أنت وحيد . . وحيد ، فراشك باردٌ ، ولقمتك بلا طعم ، ولذتك في مضاجعة الأحلام والأشباح . قل لي ما الذي أفادتك هذه اللوحاتُ الصارخة بالألم ، الغاضبة ، السوداء ، المتوحشة . . ؟ ! تعالْ إليّ ، سأعطيك النساءَ والأموالَ . سأوظفك في شركةِ دعايةٍ ما ، أو أجعلك مسئولاً عن المسرحِ والمهرجين . . تعالْ إليّ ودعْ جذورَ الأشجار والضحكات الغامضة . .
استطعتُ أن أرسمَ الجذورَ وقد تخللت التربة تخللاً عميقاً . لقد احتضنتها الأرضُ فاندغمتا معاً . نظر إلي العجوزُ بحقدٍ ، ونهضَ هو غاضبٌ وصاح في  وجهي :
-  لن  تستمر في هذا المنزل طويلاً ، أنت لم تدفع الإيجارات منذ عدة شهور ، وقد قررتْ المحكمة طردك منه . هيا أجمعْ حاجاتك ولملمْ أغراضك وغادرْ المنزل حالاً !
نظرتُ إليهِ بتحدٍ وقلتُ :
-  لن أغادر بيتي ابداً . .
- ستغادرهُ رغماً عنك . لقد قررت المحكمة طردك منه . سوف يتغير هذا المنزلُ تماماً . سوف أكنسُ هذه الأرض من بقاياكم ومن عواطفكم . . ستظهرُ عمارة كبيرة ، سيسكنها أناسٌ في منتهى النظافةِ والأدب . لن تستمر هنا طويلاً يا عزيزي ، فغداً سألقي بلوحاتك في عرضِ الطريق ، وسأعطيك ساعة أبيك وقد توقفت عن متابعة الزمن تماماً ، أما أغصان شجرة الياسمين الذابلة وجذورها الميتة فاعتقد إنك لن تحتاجَ إليها . . !
-  لن أغادر بيتي أبداً .
-  غداً ستأتي الآلاتُ والسياراتُ والعمالُ ويزيلونه في لمح البصر ، أما إذغ بقيتَ فيه فأن أحداً لن يفرق بينك وبين أية حجارة منه . . وفي غمضةِ عين ستظهرُ العمارة الرائعة . سيسكنها أناسٌ أغرابٌ وسأفتحُ فيها خمارة صغيرة تسقي العطاشى والمتعبين . . !
رمقتُ السماءَ فوجدتها سوداءَ لا ضوءَ يشعُ فيها ولا بريقٌ ينبعثُ منها كأنها رجلٌ التحف بأغطيةٍ سوداء كثيرة ومات . أنصتُ إلى المنزل الهادئ علَّ الضحكة تعودُ مرة أخرى أو علني أسمعُ الخطوات الرائعة تنبئ عن وجودها لكن الصمتَ كان يقيدُ كلَ شيءٍ ويربط كلَ فعل . . إلا هذا العجوز الذي أخذ يسير في أنحاء الغرفة وكأنه وضع يدَه أخيراً على المنزل وقبض روحَ الأسرة .
-  أستسلم يا عزيزي بهدوءٍ فأنت وحيد بلا معين في هذا العالم الواسع ، كل الناسِ الذين ترسمُ لهم لوحاتك غارقون في سباتهم أو منشغلون بتفاهاتهم . . هيا أستسلم وأخرقْ هذه اللوحات فلسوف تكسب كل ملذات الدنيا . .
وأمضي في الرسم . أدخلُ جوفَ الحلم وأطبعُ في ذاكرتي رؤاه الغامرة بالنور .
وانتبه ثانية وإذا بالرجلِ العجوز قد اختفى ! انهضُ وأفتحُ البابَ وأطالعُ الممرَ فإذا هو خالٍ وإذا بالباب الخارجي محكم الإغلاق وإذا بالصمتِ يلفُ كلَ شيءٍ ويغمرُ كلَ فعل . . ووحدها كانت هناك ، الشجرة العجوز تحدقُ فيََََّ كأم تنتظرني منذ أعوامٍ وأعوام !

 ــ 5 ــ
دخلنا البيتَ الكبير ورأينياهُ على باب إحدى الحجرات ينتظرنا وهو مقطب الوجه ، يتطلعُ إلى الطيور وهي تتقافز في أقفاصها مذعورة . وقفنا في الحوش ، وجاء خادمٌ أسودُ البشرة وراح يحدقُ في الطيور ويهدأها قائلاً : ( لا تخافي لا تخافي ) . أشار الرجلُ العجوزُ على أبي ثم دخل حجرته . تبعهُ أبي وهو يقودُ أختي إلى الداخل . أتت ترتجفُ خوفاً وبرداً ، وعيناها زائغتان ، ووجها أصفــّر وذبل . وما لبثا أن أختفيا في الحجرة . التفتُ نحو الخادم فرأيتهُ قد أخرجَ سكيناً ومضى يردد ( لا تخافي أيتها الطيور ، لا تخافي أبداً ) . كان يبتسمُ ويكشرُ عن أسنانه ويهزُ السكين كقطٍ جائع . فتح باب القفص وأدخلَ يدَهُ فراحت الطيور تهدل وتبكي بذعر . كانت تبتعدُ عن يدهِ فمضى يصرخُ غاضباً ( أين ستفرين مني ، سأقتلك ! ) ، وأخيراً وضعَ يدَهُ على ما كان يبتغي ، أخرجها فإذا هي حمامة بيضاء . ضحك بسرور بالغ وامتدت سكينهُ إلى عنقها ، وفي ثانية واحدة قطعهُ لكن الحمامة المذبوحة قفزتْ من يدهِ فإذا هي تحت قدمي اختي التي كانت خارجة في تلك اللحظة . ذعرتْ وذغرتُ وانتابني خوفٌ غريبٌ ، لأن الدماءَ لوثتها ولأن الرجلَ العجوز كان فوق العتبة يبتسم ابتسامة كأنها الموت !

ــ 6 ــ 
قالت لي : تعالْ أزرعْ هذا الغصنَ هناك .
تطلعتُ إلى وجهها الذابل وعينيها الغارقتين في الظلام وتعجبتُ من أين أحضرت هذا الغصن ولماذا تريد أن أزرعهُ وهو جافٌ يابسٌ كعصا .
قلتُ لها : سأذهبُ إلى الملعب ، وعندنا مباراة اليوم !
قالت : لن يستغرقَ ذلك منك وقتاً .
قلتُ : بل سوف يستغرق . . سوف ألبس ملابسي الرياضية الآن .
تركتها ورحتُ ألبس حذائي . رأتيها تتحاملُ على نفسها ، تنزلُ من على الفراش ببطءٍ شديد ، ثم تتجهُ إلى الحوش ، وهي ترتجفُ سعالاً وبرداً . وقبل أن تبلغ المكانَ تعثرتْ وسقطت . سمعتها تئنُ . قذفتُ الحذاءَ جانباً وركضتُ إليها ، ساعدتها على النهوض فقامت وسارت حتى وصلت الجدار الشرقي لمنزلنا . وهناك زرعتْ الغصن . ابتسمتْ وسالتْ دموعها . وراحت تدندنُ بأغنية لكن الأغنية كانت متقطعة ، خافتة ، واهنة . . أما أنا فقد لبستُ حذائي وأخذتُ الكرة وقفزتُ إلى الخارج !

ــ 7 ــ
جرني أبي إلى الباب ثم أعطاني قطعة نقدٍ وهو يقول :
- أذهبْ وألعب بعيداً . .
خرجتُ فأقفل الباب . كان الرجلُ العجوز بالداخل ، وهو يقرأ كلماتٍ غريبة من كتاب عتيق في يده . نظرتُ من ثقب الباب فرأيت أختي تتمدد على فراش والعجوز واقفٌ فوقها وهو يطلقُ بعض البخورَ ويفحص جسمها وعيناهُ تنفثان الشرر وما لبث أن ترك المبخرة جانباً وأخذ سيخاً مبيض الرأس . رأيتُ أبي يركعُ معه . رأيت العجوز ينحني أيضاً . لكن ما هذا الذي أرى ؟ إنها تصرخ . تصرخ . تصرخ . إنهما يقتلانها . إنها تصرخ . إني لا أستطيع الوقوف هنا . إني لا أستطيع المكوث هنا . إنني أركض وأركض وأركض بعيداً . سرتُ وسرت حتى شعرتُ بالتعب يثقب صدري ويشل قدمي . سقطتُ على الأرض وتشبثتُ بالتراب . وعندما رفعتُ رأسي رأيتُ البستان القديم أمامي . لم أمسع عصفوراً يغرد أو جدول ما يغني . رأيتُ أبنية بشعة تتمددُ فوق كالوحوش . تحول البستان إلى بلاعة فاضت مياهها وانتشرت قذارتها في كلِ مكان . سمعتُ بكاءَ الأطفال وعويل النساء وضحكات السكارى والشتائم الحادة والكلمات الغريبة . وتصاعد البكاءُ العنيفُ ورأيتُ جنازة تتقدمُ نحوي . إنهم رجالٌ مسرعون يحملون نعشاً صغيراً يكادُ يطيرُ فوق أكتافهم . إنهم يتقدمون نحوي ويديمدمون كأنهم يتوعدون عدواً لا يرحم . إنهم يقتربون ولا يرونني . وأنا لا أقدرُ على النهوض . تمزق صدري وخارت قوتي . يقتربون . عليّ أن أنهض . عليّ أن أقفز . وهم يتقدمون . . عشرات الأرجل والأحذية والنعل . . حصى يتناثر وأصواتٌ تخضُ الأرضَ . . وحملتُ ثقلي وروحي وقفزتُ . . ولم ينتهبوا لشيء ، ظلوا يتقدمون . .
وحين حلَّ الظلامُ عدتُ إلى حينا . إن قلبي يرتجفُ كالحمامة المذبوحة . قلبي ينتفضُ وأنا أقتربُ من البيت . إن صوراً مفزعة تشدني من عيني وشعري . إن أسياخاً من الحديد المحمى تلهبُ جلدي ولحمي ، وها أنذا أصل إلى البيت . وها أنذا أسمع البكاء والعويل . وها انذا امسعُ الصياح في كل مكان . البابُ مفتوحٌ على مصراعيه ، والناس تبكي في الداخل . أوصاتٌ تفقأ عيني وتثقب أذني وفتت قلبي . بكاءٌ . بكاءٌ . بكاءٌ . وهي كانت هناك ! تحت شجرة الياسمين غطيت برداء أبيض وأغصان الشجرة تدلت عليها وراحت تقبلها بحبٍ لا يضاهي ، وأنا لا أعرف ما العمل ، أبكي وأصرخ وأريدُ أن أمزق شيئاً ما . أريدُ أن أقتل أحداً .
وانتبه لنفسي وإذا بي رجل كبير ذو لحية كثة ولوحة ناقصة ، وإذا بشجرة الياسمين عجوز يتمددُ في كل جسدِ المنزل كالعروق ، وإذا السماء من فوقي كالشيطان جالس بعباءته السوداء والصمتُ يغمرُ كلَ شيء فلا بكاءً أو عويلاً ولا أناساً ولا أكفاناً ولا أزهاراً .

ــ 8 ــ
جلستُ أمام اللوحة وواصلتُ الرسم . انطلقتُ إلى الوجه مباشرة ، أريدُ أن أجعل الضحكة تنبثق كزهرةٍ لا تذبل . كانت يدي تعملُ بلا توقفٍ ، والألوان تتجمعُ شيئاً فشيئاً مشكلة الوجه . فجأة أخذت يدي ترتجف واهتزت الفرشاة . هل يمكن أن أرسم الفرح ؟ هل أقدر أن أصل إلى الضياء ؟
في تلك اللحظة كنتُ أرمقُ السماء فرأيتُ البرقَ سيفاً يبتر معصمي  وأضاءت البروقُ المنزلَ فخيل إليّ أن الشجرة ترقصُ في فرح . تناولت الفرشاة واندفعتُ في الوجه . صحتُ : تعالي أيتها الصبية القاطنة مملكة الصمت ، أنهضي من رقدتك الأبدية وسيري معي بضعَ خطوات . تعالي إلي فستكونين هنا ، إلى الأبد ، حيث لا موت ولا صمتَ ، أنهضي !
وضاعت كلماتي في غمرة دويٌ عنيف هزَّ السماءَ ، وتتابع قصفُ الرعد واهتز المنزل وانتفضت الشجرة مذعورة . سمعتُ هديراً وزئير غابةٍ من الوحوش ، وأندفعَ الهواءُ رياحاً هوجاء من كلِ جهة . وبغتة تساقط المطرُ مدراراً . أندفع يضربُ الجدران والأبواب كجموعٍ هائلةٍ من الجياع . فتتابع قصفُ الرعد ، وأمتشقت السماءُ بروقها وأضاءت الفضاءَ واكتسحت الظلام . وأستمر المطرَ في دقهِ على النوافذ يريدُ الدخول .
وخيلَّ إليَّ أن السقفَ يتشقق ، والماءَ يتسربُ منه . وأصمني الضجيجُ وقيد الرعدُ ذراعي ، وبصعوبة حررت يدي وواصلتُ الرسم فازداد المطرُ صخباً ، وأشتد قصفُ الرعد ، واهتزت النوافذُ وتأوهتْ الأبوابُ . وسمعتُ أغصانَ الشجرة ترتجف برداً ورأيتها تدقُ النافذة كأنها تطلبُ دفئاً وأماناً . .
واصلتُ الرسمَ وشعرتُ بكياني كلهُ يتهدم وأصابعي عاجزة عن مسك الفرشاة لكن النهاية بدت على بعد خطوتيني . خطوتان فقط وينتهي التعبُ ، وهذه الضرباتُ الأخيرة ستحددُ كلَ شيء . وقبل أن أخطو خطوة واحدة رأيتُ السقف يتشققُ والماءَ يتسربُ إلى الغرفة . خطٌ من الماء يتسللُ إلى الداخل بلا توقف لكني لم أتوقف . قفزتُ خطوة واحدة فرأيتُ الضياء يلوحُ في نهاية النفق المظلم ، وبعد أن نسيتُ كلما حولي ، فاختفت الضجة وتلاشت الآلام وتعب التعبُ مني ، أطلقتُ كلَ روحي في الضربة الأخيرة وبعدها القيتُ بنفسي على الفراش منهاراً .

 ــ 9ــ
سمعتها تضحك ضحكتها الرائعة ، ورأيتها تجري في حقلٍ من الأزهار والأنوار ، رأتيها تلوحُ لي وتبعث قبلاتها السخية ، غمرتني السعادة وتحوللتُ إلى عصفور يغردُ وينفضُ الندى عن جناحيه فرحاً ولما سمعتها تدقُ على النافذة رفعتُ رأسي فوجدتُ نوراً خافتاً ينتشرُ في الغرفة وسمعتُ المطرَ يعزفُ على زجاج النافذة نغماً هادئاً راقصاً .
انتبهت إلى الصباح وقد اشرق والعاصفة وقد رحلت ، والهدوء وقد خيم على الفضاء . كانت أرضُ الغرفة تبللت ماءاً ولكن اللوحة كانت فوق الطوفان . ورأيتا تلوحُ ل يوتضحك ، وأزهار الياسمين تحلقُ في السماء الزرقاء ورائحتها تغذي النورَ والهواءَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهرس مجموعة الرمل والياسمين
1 – الفتاة والأمير
2 – علي بابا واللصوص 
3 – شجرة الياسمين 
4 – الأرض والسماء
5 – اللقاء               
6 – نزهة                
7 – لعبة الرمل          
8 – الأحجار             
9 – العوسج           
تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء