دلوز 'صخب الكينونة'
دلوز 'صخب الكينونة'
ما التعليم فعلاً ؟ نعلم أنه على الدوام ، سؤال مركزي من أسئلة الفلسفة . ونعلم أيضاً أنه يتعلق بربط الإجابة بسؤال آخر : ماذا عن الكينونة ؟ ونعلم في المقام الثالث ، منذ برمنيدس ، أنه أيّا كانت المعالجة المفهومية لذلك الربط ، أو الإجابة المقدمة على سؤال الكينونة ، لا بد من الإنتهاء إلى الصيغ الممكنة لقضية واحدة : " الهو هو هو في الآن نفسه ، تفكير وكينونة ، يكمن السهم العظيم لهيدغر ، في أنه أعاد بتكثيف شديد ، صَوْغ تلك الأوامر بما هي التي تحدّد مزاولة الفلسفة . وكل عمل فلسفي خلاّق اليوم ، من مثل العمل لجيل دولور ، إنما يتمسك في سياق أحوال العصر ، بالأسئلة الثلاثة : ماذا عن الكينونة ؟ ماذا عن التفكير ؟ كيف يتحقق عند دولوز ، وبصفتها واحداً ، حياة لاعضوية ، محائية ، وهماً لا معنى له للمعنى ، إفتراضياً ، ديمومةً محضاً ، إضافة ، إثباتاً للإتفاق ، وعوْداً أبدياً . وأن التفكير هو شميلة فاصلة وحدسً ، ورمية نرد ، وقهر تزهوي كالحة بعينها ، وقوة الذاكرة . بقي أن تمعن أكثر في نظرية الربط على أي معنى يتطابق التفكير والكينونة ، وطبقاً لأي استعمال للتطابق ؟ لأن التطابق المنطقي ، ال أ = أ ، مرفوض عند دولوز ، بما أنه مقولة من مقولات " الأفلاطونية " . ثمة تقليد تليد تطابق التفكير والكينونة باعتباره مبدأ . في مقالة الجيم من ما بعد الطبيعة ، يعالج أرسطوطاليس إمكانية تفكير في الكينونة بما هي كينونة طبقاً لثلاثية مبدأ التطابق ومبدأ عدم التناقض ، ومبدأ الثالث المرفوع ، أما قناعة دولوز فهو أننا لم نعد قادرين على سلوك هذي السبيل . وليس هذا مسألة إرادة حسنة : لم نعد قادرين على ذلك . إذ أن الفكر الذي " يقرن " ضمن مبادىء ، كينونة الكينونة وكينونة التفكير ، هو ممتع علينا بالفعل من حيث وضع العالم ( أي من حيث الكينونة نفسها ، في الهيئة المعاصرة لأحوالها ، أو لسيمو لاكراتها ) : لقد قدم لنا نيتشه وملاّرميه من جديد كشفاً لفكرة - عالم تصدر عنه رميةُ نرد . لكن ، يتعلق الأمر عندهما ، بعالم من دون مبدأ ، عالماً فقد المبادىء كلها " ( الطيّة 90 ) . هل يجب أن نستنتج من ذلك انفصالاً لا فكاك منه بين الكينونة والتفكير ؟ كلا ، ولا ريب . كيف سيضطلع بذلك الإنفصال مفكّر الواحد الأكثر راديكالية منذ برغسون ؟ يقول لنا دولوز إنه لا بد من تقريظ فوكو من حيث اضطلع في أقاصي دقائق تحليلاته ، بأن " المعرفة كينونة " ( فوكو ، 119 ) . وبالتالي ، المشكل هو مشكل تطابق غير مبدئي ، بين التفكير والكينونة . يمكن أن نستندها هنا إلى تقليد كبير يجد جذوره في ديكارت ، ويعتم سؤال الكينونة - التفكير ضمن إشكالية تتعلق بالذات . لا يقتضي هذا التقليد على الأقل في الظاهر ، الرجوع إلى تعالى المبادىء ، إذ أن الربط يتحقق فيه باقتراض ذاتٍ ، حاملٍ للفكر ، وبمساءلة هذه الذات من حيث كينونتها . فيُتعرّف إلى كينونة التفكير بصفتها كينونة الذات ، ويتحول سؤال تطابق الكينونة والتفكير إلى سؤال عن منزلة الكينونة - الذات من الكينونة . أوج تحقق هذا التوجه هو بلا شك ، هيغل حين يضع برنامجاً للفلسفة برمتها ، أن تتفكر المطلق لا بصفته جوهراً وحسب ، بل كذلك وفي الوقت نفسه ، وصفته ذاتاً " . لا يستطيع دولوز أن يسلك هذي السبيل أيضاً ، على الأقل بكيفية مباشرة . ولمعارضة دولوز الجوهرية هذه لكل ما يتقدم باعتباره " فلسفة " في الذات " ، عللٌ كثيرة متقاطعة ... لم يكن ثمة غير قضية أنطولوجية : الكينونة متواطئة . لم يكن ثمة غير أنطولوجيا واحدة هي أنطولوجيا دونس سكوت ( Dun Scot )التي تمنح الكينونة صوتاً واحداً . نقول دونس سكوت لأنه عرف كيف يحمل الكائن المتواطىء إلى ذروة اللطافة ، مع احتمال أن يدلك على ذلك تجريداً . لكن من برمنيدس إلى هيدغر نفس الصوت هو الذي يعود في ترديد يشكّل لوحده كامل انبساط المتواطىء ، صوت واحد يؤلف صخب الكينونة[ ... ] يمكن القول إن عصر دولوز قد كان في الفلسفة ، موسوماً وموقعاً بعودة سؤال الكينونة . ولذلك كان يهيمن عليه هيدغر ، إذ أنه قام بالتشخيص ، وبعد قرن من النقد ثم الفاصل الفنومينولوجي ، خاض بصريح العبارة في ما كان قد أعاد تنظيم التفكير حول تَسْآله الأصلي : ماذا عن كينونة الكائنات ؟" في نهاية المطاف كان القرن أنطولوجياً وهذا التعيين المصيري هو أكثر جوهرية من " المتقلب اللغوي " الذي يُحمل عليه . بهذا المعنى ، دولوز أمين القرن على الإطلاق ، إذ لن يكون من الممكن ربط تفكيره بالمتقلب اللغوي الذي يبان اختزالاته النحوية أو المنطقية ، ولا بالتيار الفنومينولوجي الذي ينقده بشدة الإختزال الذي يقوم به من حيث يرد التمنيات الحيّة إلى مجرد أشكال ترابط قصديّ للوعي . إن السؤال الذي يطرحه دولوز هو الكينونة ، وتمثل هذه المقالات التي اشتمل عليها هذا الكتاب محاولات للإجابة عن هذا السؤال ، إذ أن الأمر يتعلق بكتاباتها كلها ، وتحت قهر ما لا يعدّ ولا يحصى من الحالات التي تحدث إتفاقاً ، بالتفكير في التفكير ( في فعل التفكير في حركته) على أساس فهم أنطولوجيّ للكينونة بصفتها واحداً . ولن يشدّد المرء أبداً بالقدر الكافي على أن التأويل النقدي أو الفينومينولوجي لأعماله ما ينفك يطمس ويحجب أن دولوز يطابق بإطلاق بين الفلسفة والأنطولوجيا .