درس البحر ( 414 صفحه)
الطبعة 1 , سنة النشر 2012
درس البحر
البلاغة لها شروط وصفات عديدة نجدها مفصلة في كتب التراث، من تلك الصفات: (قوة التأثير في النفس): تفتح هذه الصفة (قوة التأثير في النفس) لنا نافذة واسعة للخروج بالبلاغة من ميدان اللغة إلى ميادين أخرى أي: أن نصف بالبلاغة ما هو لغوي، فتقول: هذان بستان بليغ، وتلك لوحة بليغة. إن أساس هذه الصفة نبع، وينبع، من أن اللغة (غير الشعرية) لا بد من أن تتوجه من مرسل إلى مستقبل، بقصد التأثير أو (التوصيل) ويكون التوصيل عديم الجدوى حين يكون بلا تأثير، لأن التأثير هو الذي تتحول به (المعرفة) من مجرد معرفة إلى سلوك، القدماء إذن على حق حين جعلوا (قوة التأثير في النفس) صفة لازمة للبلاغة، ولكننا - هنا - نريد الخروج من الحقل اللغوي إلى حقول أخرى. كانت البلاغة لغوية، والآن - حسب أحد مفكرينا - خرجت إلى أن أصبحت صورة وجسداً ولوناً ورشاقة، هل سهرت عينيك حتى الفجر في إحدى الفضائيات؟ إذا كنت قد فعلها أو فعلت نصفها، فلا شك في أنك قد وقعت على البلاغة، ووقعت عليك... خرجت البلاغة إذن من الكلمة إلى الصورة، ومثلما تكونت على مر التاريخ ما نسميها (ثقافة الكلمة) تكون الآن ما نسميها (ثقافة الصورة). كان هدف ثقافة الكلمة - في الغالب - هو دفع الناس إلى طريقة أفضل الفكر وفي السلوك، أما هدف ثقافة الصورة فيوضحه أحد مفكرينا بما مضمونه: تهدف ثقافة الصورة إلى إيديولوجيا (ضمنية) تهدف إلى تنميط الشباب، تمهيداً لتوحيد رؤيتهم؛ ويزيد ذلك إيضاحاً بالقول: إن الخبز والتيشرت والدسكو ونجوم الغناء والرقص والكرة والوجبات السريعة.... هذا التنميط على مستوى المظهر ليس مسألة، إنه مكون أساسي من ملامح وسمات صورة الشباب... إنها إيديولوجيا تهدف إلى صبغ جميع الشباب، في كل أنحاء العالم، بألوانها وما تريد له أن يفكر فيه ويسعى إليه، إن ما تسعى إليه بلاغة الصورة الجديدة هو عكس ما سعت إليه البلاغة القديمة (بلاغة الكلمة)... وما عشت أراك الدهر عجباً، ما الذي تسعى إليه بلاغة الصورة، أو ما أسميه (الثقافة البصرية)؟... إنها تسعى إلى تهديم ما سعت (الثقافة الذهنية) إلى بنائه طوال التاريخ، عن طريق زرع قناعات جديدة بدلاً من القناعات السابقة، وأهمها (تشكيل إدارة المجتمعات عن طريق تغيير تصورها للواقع)؛ يروي مصطفى حجازي عن أحد الخبراء العسكريين قول: (إن الإنتصار في حرب المعلومات هو أن تجبر العدو على أن يفكر كما تريد)، إجبار الآخر على أن يفكر كما تريد، كان هدف كل الثقافات الخضراء في العالم، وكل الدعوات الإصلاحية، وكله يلبس ثوباً آخر، إن هدفه الآن ليس دفع الآخر إلى أن يفكر في نفسه وفي مجتمعه وفي الكون كله... بل أن يفكر كما يريد عدوه!! ترى ما الذي يريده عدوك منك؟ يريد أن يجرد روحك من طموحها، وذهنك من طاقته، وإرادتك من غاياتها النبيلة... هل من الممكن أن يجول في ذهنك وكقارئ تصور ما للبلاغة من معانٍ حتى أن من معانيها ما يحتوي عالم الحداثة والإنسان المعاصر؟!! لا بد من إبداع وصولاً إلى ما ساقه محمد العلي في مقالته هذه (بلاغة الصورة) من أفكار تزيد من وعيك فيما يدور حولك. هو هكذا محمد العلي في مقالته تلك كما في سائر مقالاته في هذه المجموعة التي جاءت تحت عنوان "درس البحر"... يخاطب رمزاً، يلمح، يومئ، ويلعب للوصول إلى ما يرمي إليه، بحرفية عالية، وكقارئ تجد نفسك عبر إبحارك في هذه المجموعة أنك تقرأ مرحلة ثقافية بكل همومها وتطلعاتها، فكرياً وجمالياً.
الزوار (721)