إلى البرج العاجي أيها الكتّاب!
أضيف بواسطة: , منذ ٤ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 4 د



ربما لا يوجد في أدبنا العربي من يمكننا اعتباره كاتباً حراً بكل معنى الكلمة كما يمكن اعتبار توفيق الحكيم. وربما أكثر ما يعبر عن استقلاله الفكري وحريته هو ابتعاده عن الأحزاب السياسية والنساء.

"إني حر، إني حر حرية تكاد تخرجني أحياناً عن نطاق النوع البشري. إني حر من قيود الأسرة والتبعة. حر من أغلال الزمان والمكان. حر في النظر إلى الأشياء، فلم تعم بصيرتي عقيدة من العقائد ولا مبدأ من المبادئ. إني في وحدتي وحريتي أكاد لا أشبه آدمياً من الآدميين".

 فعندما كان في باريس لتحضير الدكتوراة في الحقوق والتي لم يحصل عليها لأنه فضّل دراسة الفن والأدب الأوربي وقضاء وقته في المتاحف والمسارح. تعرّف حينها على امرأة لم تمض ساعات قليلة على علاقتهما حتى راح يفكر كيف يتخلص منها:

"ماذا أنا صانع بها! اليوم أحد وهو زيارتي المعتادة لمتحف اللوفر. هل أصحبها؟ إنها لن تطيق المكث في هذا المتحف ست أو سبع ساعات كما أفعل. وإذا احتملت فإنها لن تستطيع الوقوف ساعة أمام الصورة الواحدة كما أصنع. وإذا فعلت فإنها لن تسكت عن بعض التعليقات السخيفة التي تبدد علي جو تأملاتي وتفسد عليّ نظام تفكيري. إني الآن آكل وأعمل وقتما أريد وحيثما أريد. إن حياتي غير المقيدة بمكان ولا بزمان ولا بإنسان ستصبح منذ اليوم داخل إطار محدود من صنع هذه المرأة. إنها عبء وتبعة. إني لم أخلق لأسير في الحياة وامرأة معلقة في ذراعي".

وربما أكثر ما تعرض له توفيق الحكيم من انتقاد كان بسبب عزلته والاحتفاظ بحياته الشخصية بعيداً عن فضول الصحفيين الذين راحوا يتهمونه بالانعزال ببرج عاجي، ليؤلف بعدها كتاباً بعنوان "من البرج العاجي" يخبرهم فيه أنه إن ندم على شيء في حياته فهو أنه لم يستطع دوماً أن يعتصم ببرجه العاجي، لأن هذا العصر الصاخب سيفسد عليه خلوته مهما حاول أن ينعزل عنه:

"البرج العاجي هو وكر قصي يسكنه طائر منفرد لا يريد أن يحط على جيفة من جيف الأرض. واأسفاه! كان بودي أن أكون هذا الطائر. ولكن العصر الحديث لا تمتنع عليه الأبراج والأوكار، فإن أزيز آلاته ودوي صيحاته قد أفسد سكون الأعالي على المفكرين والأطيار. لا يوجد اليوم الكاتب الذي لا يغمس قلمه في وحل البشر".

ويتابع مشيداً بفضل العزلة والوحدة والالتزام ببرجه العاجي:

"كان إبسن يقول: "الرجل القوي هو الرجل الوحيد". كان إيماني شديداً بهذه الكلمة وما برحت أرى فيها دستوري الذي لا ينبغي أن أحيد عنه، فأنا كلما انطويت على نفسي واعتصمت ببرجها، أعطتني كل ما أريد من قوة ومنعة. وكلما التمست ذلك عند الناس أو عند أصحاب الجاه والسلطان شعرت أنهم أضعف من أن يستطيعوا لمثلي خيراً أو شراً. فليست قوتي المنشودة في ألقابهم ولا في ثرائهم إنما هي في شيء ليس في مقدور أحد أن يمنحنيه غير نفسي. إن التاج الذي يوضع فوق جبيني ليس في مقدور يد صنعه غير يدي، ولا جواهر تزينه غير الجواهر المستخرجة من كنوز نفسي".

والبرج العاجي كما يراه الحكيم ليس كما يعتقد منتقدوه، قوقعة صماء تعزله عن قضايا مجتمعه وهمومه، بل مختبر منعزل عن الثرثرات والشائعات، حيث تنضج الأفكار والرؤى بعيداً عن صخب العامة وضجيجهم:

"البرج العاجي عندي هو الصفاء الفكري والنقاء الخلقي. وهو الصخرة التي ينبغي أن يعيش فوقها الكاتب مرتفعاً عن بحر الدنايا الذي يغمر أهل عصره".

فبرأيه مهما حدث في الشارع فهو لن يغير من تاريخ البشرية في شيء، حتى الثورات الشعبية الكبرى لا معنى لها ولن يبقى منها شيء كما يمكن أن يبقى من فكرة أو نظرية أو فلسفة أنتجها شخص معزول في برجه العاجي. كان غوتة هو المثال الأعلى لتوفيق الحكيم، وفي إحدى مساجلاته مع منصور فهمي يقول:

"أتسمع هذه الضوضاء التي ارتفع صداها إلى أبراجنا العاجية، فأفسدت علينا هدوءنا وتفكيرنا؟ لعلك قائل معي هي "هستريا السياسة" أصيب بها هذا البلد دفعة واحدة! نعم، الأمر لا شك خطير ما دام قد استطاع أن يصل خبره إلينا، فيؤثر في أعصابنا وإنتاجنا نحن المعتصمين في أبراج الفكر الهادئ. وإذا وصل بخار السياسة إلى تلك القمم الباردة في أمة من الأمم فأنذر إذن بالويل وتنبأ بأن رأس الأمة قد لعب به الداء! فما رأس الأمة في حقيقة الأمر إلا مفكروها المجردون! وإنك لتذكر ما كان من أمر غوته شاعر الألمان يوم زلزلت الدنيا بثورة يوليو الفرنسية! فقد دخل عليه صديقه الأديب أكرامان يزوره ويتحدث إليه فبادره غوته صائحاً:

    لقد أرسل البركان حممه واشتعلت النار في كل شيء!
قال أكرامان:
    نعم، إنه لحدث جليل: هذه الثورة الفرنسية!
فعجب غوته وقال ساخراً:
    كلا، لست أعني تلك الثورة، أنا أتكلم عن المساجلة العلمية التي نشبت في موضوع أصل الأنواع بين العالمين كوفييه وجفري سانت هيلير تحت قبة المجمع العلمي!

هنا أيها الصديق كل مجد ألمانيا في الماضي، بل كل مجد البشرية العليا!... إن رعد الثورة وصياح الثوار لم يبلغ صداه أبراج العلم وقمم الفكر! ولقد انطفأ فعلاً لهيب الثورة الفرنسية ومضى بدخانه ورماده وأشلائه، وبقي رأس غوته شامخاً مضيئاً في عليائه، رمزاً للفكر الإنساني الخالد".

وبهذا يكون الالتزام ببرج عاجي، بمنعزل، بمكان تصفو فيه أفكارنا وتبعدنا عن ضجيج الأخبار والتواصل الاجتماعي والانتهاك اليومي لراحة نفوسنا واستقرارنا، هو فقط ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات:

"كل فضل الإنسان عن غيره من المخلوقات أنه ارتفع إلى العناية بأشياء معنوية لا تتصل مباشرة بطعامه وشرابه ومقومات حياته المادية. وهذه سماها فيما سماه: الفن والأدب، وحرص على أن تبقى قدر المستطاع بعيدة عن تفاهاته الأرضية لتذكره من حين لآخر أنه ليس حيواناً".

"فإلى البرج العاجي أيها الكتاب. البرج العاجي بما فيه من صفاء فكري ونقاء خلقي. ذلك البرج الذي أحاول أن أجده في الوحدة. الوحدة المعنوية. أي الاستقلال والكمال والحرية!!"






المصادر:

الأعمال النقدية الكاملة الجزء 1 جورج طرابيشي

من البرج العاجي توفيق الحكيم

تحت شمس الفكر توفيق الحكيم

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء