تعقيد القارئ.. كُتّاب الأدب، هل أصبح اعتزالهم ضرورة؟
أضيف بواسطة: , منذ ٤ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 4 د

في بدايات القرن الواحد والعشرين، بدأ يظهر في العالم محور جديد إزاء مفهوم القراءة، ويمكن تلخيصه بجملة بسيطة: "إننا لم نعد نقرأ للمطالعة". بمعنى فعل القراءة اليوم لم يعد هواية كما كان سابقاً، حتى القارئ لم يعد هاوياً، إنه معقّد أكثر مما يبدو عليه وأكثر تطوراً.

في النصف الثاني من القرن العشرين حتى نهايته، كان فعل القراءة على المستوى الاجتماعي - ليس في دول العالم الثالث فقط، بل حتى دول العالم الأول - كان يأخذ طابع الهواية، بمعنى كان فعل تكميلي وبرستيج لتحقيق المظهرية الثقافية الشعبية.

يمكن القول أن العالم في تلك المرحلة كان غضاً على مستوى المجابهات المعرفية مجتمعياً (بعيداً عن صراعات السياسات الكبرى للدول)، إننا نتحدث على مستوى اجتماعي ثقافي شعبي. لم يكن هناك صدام حقيقي مع واقع منفتح كما هو اليوم، لم تكن حالة الصراع بين فعل القراءة، والفنون عموماً، بما تمثله من قيم جمالية وآلية لإعادة إنشاء منظومة الحياة من ذلك البعد الجمالي، قد تصادمت كما هي اليوم بالانفتاح التكنولوجي الذي يطغى على كل شيء وليس الفن فقط، إنه حتى يطغى على آلية الحياة الطبيعية.

تلك المرحلة الهادئة لمفهوم الثقافة، أعطتها خاصية الهواية التكميلية "إننا نمتلك هواية المطالعة"، وذلك بطبيعة الحال أنتج حركة فكرية عامة، وأدبية نقدية اجتماعية خاصة مع ملامح بسيطة من المتع السردية دون الالتفات إلى قيمة فعل القراءة، بما فيه الأدب، وهو تطور مفهوم الفن.

لتخصيص الموضوع نسبياً دعونا نلقي نظرة سريعة على مرحلة تاريخية؛ فعندما نشاهد الكم الهائل من الروايات مثلاً لحنا مينة أو نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو أسماء أخرى أقل شهرة أو أقل إنتاج، نفهم تماماً لماذا كانت القراءة بالنسبة للمجتمعات، عبارة عن هواية للإطلاع. طبيعة تلك الروايات النقدية للمجتمعات قُدِّمت بصيغة السرد الممتع دون أن تقدّم فعلياً ما هو هدف الفن الكتابي أصلاً، وهو صيغة الفن للفن. ليس معنى هذا ألا يقوم الفن بدور التحليل أو الدفاع أو اتخاذ موقف من بؤس البشر، لكن يعني أن يكون جزء من وجوده قائم على تطوير الفن وخلق الخيال بعيد عن الواقع لأن البحث عن الصيغة الجمالية لدى القارئ هي الأهم بالنسبة له، لأنها تأخذ دور استراتيجي في إعادة بناء منظومة الحياة من منطلقات فردية وليست جمعيّة نقدية.

بمثال بسيط، في رواية الغريب لكامو، كان القارئ في القرن العشرين ينظر للمسألة بعين الباحث عن الخلفية الاجتماعية والسياسية التي أنتجت لامبالاة البطل مورسو وتأثيرها فيما بعد على أخلاقية الإنسان والدمار الذي سينتج عنه مستقبلاً. لكن قارئ اليوم ما يهمه في مورسو هو المونولوج الثقافي الذي ينتجه البعد الجمالي لفلسفة البطل لإعادة تشكيل واقع القارئ فردياً، لأنّ لامبالاة مورسو التاريخية قد أصبحت واقعاً حياً نعيشه فعلياً اليوم. هذا الاختلاف في الفهم والضرورة التصادمية التي أنتجها الواقع مع التكنولوجيا، أجبرت القارئ أن يتحول إلى شكل أكثر تعقيداً في معالجاته القرائية، وبالتالي رفض التكرار الذي لا يطور مفهوم الفكر والأدب والفن.

بمعنى، أي قارئ اليوم يستطيع استشفاف أي رواية وسياقها لنجيب محفوظ أو حنا مينة (إذا قرأ عملين لهما فقط) ويتوقع حصول أحداث بما يقارب 40 بالمئة من السياق العام، لأنها أصلاً قائمة على فرضية النقد الاجتماعي وليس على بنية تهدف لتطوير بنية الفن نفسه، لن يشعر القارئ بضرورة قراءة كل أعمالهما لأنها فعلياً تأخذ السياق نفسه في مجمل الأعمال بذات المواضيع. ذات الأمر يتكرر مع كثير من كُتّاب اليوم الذين يمتلكون شهرة واسعة ولكنهم فعلياً يتعاملون مع الفنون من ذات المنطق الواحد دون تنويع وابتكار، كسرديات ضخمة كما لدى واسيني الأعرج، أو أحداث أشبه بمقتطفات واقتباسات كما لدى كويلهو. الأمر نفسه نشاهده لدى الكثير من كُتّاب المذاهب الأدبية التاريخيين أصحاب النزعة الواحدة للفكر والأدب، جون شتاينبك أو مكسيم غوركي أو جاك لندن أو انطوان تشيخوف، بغض النظر عن الاختلافات الأدبية ومستوياتهم من وجهة نظر علاقتنا الفردية معهم. 

أو حتى بعض المؤلفين المعاصرين الشبان الذين يدورون في تلك الحلقة المفرغة بين إعادة إنتاج النقدية الاجتماعية والسياسية أو الضخامة السردية بذات التكرار التوصيفي والشخوصي أو الشعرية الاجتماعية كـ غليم ميسو أو أيمن العتوم (على سبيل المثال لا الحصر). إنها أشبه بمعضلة تجارية تطحن الجميع ولا أحد يجابه ليخلق صيغة مختلفة للفن من حيث قدرته على رسم ملامح الخيال الإبداعي ليقدم ثورة معرفية من جوهر الفن نفسه.

إن اختلاف صيغة القراءة واختلاف القارئ نفسه وتطوره المتأثر بطبيعة الانفتاح المعرفي اليوم وتعقيده المستمر يوماً بعد يوم، يجعل من الأدب الذي يتعامل مع مفهوم القراءة (كهواية مطالعة ممتعة بعد العشاء) حالة انتكاس معرفي وجمالي، بعملية تكرار نفسه لجعل التجربة مملة إزاء أولئك الأشخاص الأكثر شهرة الذين حققوا مكتسباتهم دون محاولة لتطوير الفكر والأدب، والغرق في بنية الصراع الوهمي من النقد والسرد دون تقديم شيء يثير الاندهاش.

القارئ اليوم متطلب فعلياً لعمل حقيقي يدمي العقل قبل الروح، وما التكرار المنتشر سوى صيغة لقتل الفن نفسه ودفنه عاجلاً أم آجلاً ضمن مشهدية الإنتاج الكثيف والفارغ.

يمكن القول أن اعتزال بعض الأدباء (مشاهير أم على حافة الشهرة) اليوم أصبح ضرورة، بغض النظر عن الرؤية الإنتاجية الساعية للشهرة فقط على حساب الفن نفسه. قارئ اليوم لم يعد هاوياً ولا يمارس الإطلاع من أجل التسلية ولا البحث عن النقد لتحصين المستقبل لأنه أصلاً يعيش الجحيم سابقاً عن كل ما يمكن للفكر تقديمه، إنه يبحث عن إعادة هيكلية فردانيته من خلال أعمال أعمق خيالاً ومثيرة للدهشة مقارنة بالتكرار السطحي للحدوتة النقدية أو الشعرية الرومانسية البليدة. أعمال لا تخلق روح الملل في القارئ، أعمال كما عبّر كافكا يوماً، تكسر الجليد فينا.

ويبقى السؤال في جعبة القارئ.. هل تشعر أن هناك كُتّاب يخلقون هذه التكرارية المملة والمشهدية النقدية التي تزيد من حدة الفشل الأدبي! إن كان هناك بالنسبة لك أدباء يمثلون تلك الحالة، فمن هم فعلياً؟.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء