كل ما يعلمه الرجال عن النساء .. ثقافة عميقة أم فصل جندري!
أضيف بواسطة: , منذ ٤ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 3 د


في عام 1987، صدر في الولايات المتحدة عن دار النشر نيوبورت هاوس التي أسسها آلان غارنر وسيندي كاشمان، كتاب بعنوان Everything men know about women، للدكتور آلان فرانسيس، ومنذ ذلك الحين يُعاد طبع الكتاب كل سنتين تقريباً حتى وصل لعام 2018 صدور الطبعة رقم 15، وبمبيعات هائلة.

الكتاب ببساطة لا يحتوي سوى على الغلاف، اسم الكتاب ومعلومات المؤلف ودار النشر، ونبذة في الغلاف الخلفي عن الكتاب، وفي الداخل 128 صفحة فارغة كلياً؛ صفحات بيضاء فقط، ولا كلمة واحدة.

عندما اكتشفت الكتاب مصادفة، دعاني الفضول للبحث ورائه ومعرفة السبب خلف هذا الكم الهائل من المبيعات. شخصياً اعتبرت الموضوع بداية أنه حركة فنية لطيفة من دار النشر، ليقوم من خلالها الشخص بامتلاك الكتاب كتزيين فني لمكتبته، وهو أمر مقبول نسبياً، لكن من غير المقبول أبداً وغير المنطقي بتاتاً، أن يتم بيع الكتاب الكترونياً على منصات كالأمازون؛ بمعنى أنك تحتفظ بنسخة إلكترونية وليست تزينية فنية في مكتبتك؛ ما فائدة الاحتفاظ بأوراق فارغة ضمن مكتبة افتراضية لا تحقق لا الشرط المعرفي ولا الشرط الجمالي البصري كما الواقع!.

في بعض الموقع التي تروّج للكتاب، قيّم بعض الأشخاص الكتاب بخمس نجوم كاملة، حيث نظروا للكتاب على أنه مادة واقعية صرفة وتعبّر عن حقيقة العنوان الذي يعالجه الكتاب، والبعض الآخر قيمه أيضاً بخمس نجوم من منطلق ساخر وغريب أن الكتاب فاشل لكنه حركة ممتعة، وآخرون رأوا الكتاب يحقق شرط أن يقوم الشخص بملء الكتاب كما يرى الحياة من وجهة نظره الذاتية؛ في كل الحالات حقق الكتاب رواجاً كبيراً.

هذا الأمر دعاني للتوقف قليلاً حوله، وطرح سؤال، هل فعلياً وصل البشر إلى ذلك المستوى الذي عبّر عنه كونديرا يوماً بحفلة التفاهة، من الفراغ واللامعنى واللاجدوى! أم أن الأمر هو اتخاذ وضعية الهروب الثقافي من الكم المعلوماتي الهائل الذي يضج به عصرنا، فأتى الكتاب كنسخة للثقافة السريعة والهادئة أمام صخب المعرفة!.

أعتقد أن البشر قد وصلوا إلى ذلك المستوى الاستسهالي لفهم المحيط بهم، دون بذل كثير من الجهد البحثي، فمثل هذا الكتاب ينمّي نزعة الحق الثقافي العميق بأننا كائنات معقدة ولا يمكن لأحد فهمنا بسهولة، رغم أن الكتاب لا معنى له من حيث فكرته سوى ما تحدثنا به عن الصبغة الجمالية والفنية اللونية ضمن المكتبة الواقعية؛ مع ذلك أخذ الكتاب نقطة بيع لا رجعة فيها ليتم التهامه من قِبل العالم بأسره ككتاب قيّم وعميق من حيث نزعته الفردية المعقدة للمرأة، التي أضحت بطريقة ما بعد الاحتفاظ بالكتاب أنها الشكل الثقافي النقي الذي بحاجة ليملأه الرجل.

لكن أليست هذه الفكرة بطريقة ما نظرة جندرية للمرأة اتجاه نفسها؟، نظرة دونية حقيقية ومترفّعة وهمية على أنها كيان نقي ومعقد ولا يُفهم بتلك السهولة؟. بغض النظر إن كانت تُفهم أم لا، لكن ترسيخ نظرتها لنفسها بذلك الشكل يحقق شرط الانفصال الذهني عن الفعل الإنساني القائم على تحقيق الاستمرار، بأنها كيان مادي خاضع لمتطلبات الطبيعة وليست أكثر من ذلك، تماماً كما الرجل ككيان يقوم على الخضوع لمتطلبات الطبيعة.

هنا يحق لنا أن نبحث عن السبب وراء انتشار الكتاب، ما الذي يجعل الناس يميلون إلى عدد من الصفحات البيضاء؟. المسألة ربما تكون جمالية كما قلنا، وربما تكون هروب من الضجيج المعرفي أو الشعور بالتفاهة واللامعنى وممارسته، وكل ذلك ينتج عنه إحساس بالتعاظم التفضيلي الجندري، لكن كل تلك الأسباب الاحتمالية ونتيجتها لها جذر أصيل في شعورنا بذواتنا بأننا كائنات مستهلكة ولا نستطيع تغيير شيء في الواقع مع كل المعرفة المتاحة والتنافسية في كتب أخرى.

المسألة هنا شعور بضرورة إيجاد بديل أمام قوة تسيطر على الذهن الثقافي البشري الذي لا يستطيع المنافسة أمام قوة الحياة وسيطرتها والمتحكمين بها. أعتقد أن الكتاب وشهرته تنبع من ذلك الشكل الذي لا يغير شيء في الحياة بوجود معرفة أخرى في كل الكتب الثانية.

يبقى كتاب فرانسيس تجربة مختلفة، لكن يجعلنا متأملين قليلاً في الواقع الذي نعيش ويخلق لدينا فكرة متسائلة، أين نسير!.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء