لماذا بيكيت أكثر شهرة من يونسكو؟
أضيف بواسطة: , منذ ٤ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 3 د


إنّ قراء الأدب بالعام يميلون إلى قراءة الرواية والقصة أكثر من قراءة المسرح، وذلك لاعتبارات كثيرة، أهمها هو الملاحظات المسرحية التي تفترض سلوكاً مخبرياً على الستيج المسرحي، لكن هذا بالطبع لا يُغلي قراءة المسرح وتخيله الحركي دون مشاهدته على الخشبة.

قراءة المسرح أكثر تفاعلية من قراءة الرواية لأنه يقوم على فهم خيال الكاتب الذي يحصرك بملاحظات معينة لتسيرا سوياً إلى النهاية، بينما عالم الرواية فهو أقرب للتخيل الوصفي وليس الحركي، فهو أكثر حرية في خلق عالم وتأويل مختلف لما يريده الروائي من ناحية الشخصية.

شخصياً أميل لقراءة المسرح لأني أتعامل مع خيال الكاتب المحض وفلسفته وليس الشخصية وتطوراتها الدرامية ضمن الرواية. هذه المتعة خلقت لديّ سؤال يفرض نفسه على قراء ومحبي المسرح حول العالم، وهو لماذا بيكيت أكثر شهرة من يونسكو؟ رغم أنهما ينتميان إلى مدرسة رمزية وعبثية وبفترة واحدة بعد الحرب العالمية الثانية؟.

شخصياً إني ميّال إلى يونسكو لاعتبارات كثيرة، أهمها أن نصوص يونسكو تنطوي على دراما بسيطة في شخوصه،، تبدأ بجمل لا معنى لها، هادئة، شخوص طبيعية، لتنتهي بجنون فريد لا مثيل له. تماماً مثل مسرحيته المغنية الصلعاء The Bald Soprano السيدة سميث التي تتحدث عن السَلطّة الانكليزية، والماء الانكليزي، والزيت الانكليزي، والسلوك الانكليزي. هذا الدخول الذي لم أقرأ حتى الآن أجمل منه كدخول مسرحي، يُقدّمه يونسكو بكل جدية مرحة، وهو ما يمتاز به فعلياً. المرح العفوي داخل حوار جدي. حيث في النهاية ينقلنا إلى جنون لغوي غير مفهوم، وحوش بشرية تُطلق زعيقها الهستيري اتجاه عالم مُحطّم، لتُعاد الحياة من جديد بنفس الآلية التي بدأت بها. أو في مسرحيته الكراسي، عندما يجعلنا نعيش عالماً فارغاً ليقدّم لنا هواجس وأحلام أناس على وشك الانتهاء والذل والإحباط.

هذا الشكل المشترك لكل أعمال يونسكو من بدايات مسرحياته البسيطة والواضحة لتنتهي بحيونة الإنسان، إن كانت مباشرة كالخراتيت، أو رمزية كالكراسي والدرس، أو هستيرية كالمغنية الصلعاء. جميعها تبدأ بشكل واحد وتنتهي بشكل حيواني وإن تعددت الأساليب. إن دراما يونسكو هي دراما تحول بشري واقعي وليس تحولاً مفهوماتياً كما نجده لدى بيكيت.

مسرحيات بيكيت تعتمل فيها النصيّة التجريدية للفكر، فانتظار غودو، هي قيمة مفهوماتية غامضة في العقل البائس. ونهاية اللعبة، عبارة عن تساؤلات مجردة لا أجوبة لها حتى لا خلاص من الحياة، لعدم الثقة بالموت أيضاً. أو نصه (مسرحية Play) الجمل غير المترابطة والأسئلة الكبرى دون معنى. أو شريط كراب الأخير، في محاولة لإعادة هيكلة الذاكرة والإنسان من خلال طرح التساؤلات المفهوماتية التي لا تجد لها سبيلاً.

هذه القيمة المجردة لنصوص بيكيت وتساؤلاتها على النقيض الكلي من الدراما الحيّة لدى يونسكو، شخوص تتفاعل وتتطور لتصل لمرحلة الهذيان والانفجار وتدمير الذات والهوية، هي ما جعلت بيكيت أكثر حضوراً في الوعي الثقافي.

لقد وعى يونسكو تجربة أوروبا بعد الحرب كانفصام مجتمعي وشرخ في العلاقات البشرية التي تنتهي بهستيريا طبيعية، بينما بيكيت اكتفى بتقديم الذهان الفكري المجرد والتساؤلات الكبرى التي لا أجوبة لها. وهذا أحد أهم الأسباب التي قدّمت بيكيت كمسرحي مهم على يونسكو. إن العقل الثقافي ميّال أكثر للتعامل مع المجردات، إنه ينظر إليها بعين الدهشة والقوة، لارتباطها الخفي مع الفلسفة.

وبرغم أن كلا الكاتبين صنعا مدرستين رغم انتمائهما لنفس الشكل الأدبي، إلا أن طغيان بيكيت، قد ظلم حضور يونسكو، الذي برأيي الشخصي لا يقل أهمية عن أي كاتب مسرحي في العالم، بل بالمعنى التعاطفي الذاتي هو الأكثر أهمية لأنه أكثر درامية في صناعة إنسان مختل خرج من صدمة تجربة إنسانية كالحروب.

تبقى قراءة المسرح هي شكل مهم في الأدب بخلاف الحديث عن بيكيت ويونسكو، إنه جنس أدبي لا يقل عبقرية عن الرواية والقصة.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء