شوربة القصص
أضيف بواسطة: , منذ ٥ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 4 د



لا أفهم الطريقة التي يخزن بها الدماغ القصص والمشاهد، فقد تحتفظ ذاكرتك بمشاهد متفرقة من قصص مختلفة وتؤلف منها قصة واحدة أو قد تخلط بين قصة وأخرى، أو تتداخل معلوماتك فتظن أن مدام بوفاري تتردد على حفلات النبلاء في المجتمع الروسي وآنا كارينينا هي التي تعيش وحيدة في ريف فرنسي منعزل. وأن فرانكنشتاين هو المخلوق المسخ في رواية لكاتبة كلاسيكية قد تنسى حتى اسمها، أو قد تخلط بين "جين آير" بطلة رواية تشارلوت برونتي وبين جين أوستن مؤلفة رواية "إيما" أو تعتقد أن الأخوات برونتي هن مجرد شخصيات خيالية تشبه الشخصيات النسائية في رواية "نساء صغيرات" التي قد لا تعرف أيضاً من كتبها أو تعتقد أنها مجرد مسلسل كرتوني.. ولكن حتى هذا التداخل يبدو لي من صميم متعة قراءة الأدب، ففي النهاية نحن لا نقرأ مقررات دراسية علينا ألا نخطئ فيها، وإنما نقرأ من أجل المتعة ولهذا فمن حق القارئ أن يقرأ ويسترجع ويركب المشاهد والقصص والشذرات كما يحلو له حتى وإن قام بتأليف قصة جديدة تماماً لا علاقة لها بالقصة الأصلية.


من يقرأ الكثير من القصص يعرف تماماً أنه قد ينسى بعض الأحداث والمواقف الحقيقية في حياته الشخصية، لكنه لا ينسى كثيراً من المشاهد التي قرأها في الكتب. بعض هذه المشاهد يستعيدها دماغك فجأة عندما تجد نفسك في موقف مشابه أو عندما تقرأ حول نفس الفكرة أو حتى وأنت تطبخ.


في أحد قصص حسن بلاسم، إن لم تخني الذاكرة المتشابكة، هناك مشهد لرجل دخل منزلاً لسرقته فوجد امرأة عجوز تحتضر وتنتظر عودة ابنها الذي خرج لإحضار الدواء ولم يعد، فتطلب من اللص إعداد شوربة العدس لها وتبدأ بتعليمه كيفية تحضيرها، لا أستطيع الآن تحديد القصة أو المجموعة القصصية التي ورد فيها هذا المشهد لكني كلما طبخت شوربة العدس أتذكر جيداً طريقة تحضيرها ونصائح العجوز فأطبخها بشكل أفضل مما اعتدت أن أفعل قبل أن أقرأ هذه القصة.


لا يبقى في الذاكرة من القصص في النهاية سوى الأثر وهو غالباً ما يأتي نتيجة مشهد واحد مؤثر، كمشهد غناء دانيار في رواية "جميلة" عندما كان عائداً من العمل معها عند الغروب ترافقهما أصوات حوافر الخيول وصهيلها، أو مشهد موت الحصان في "وداعاً يا غولساري"، أو مشهد هطول المطر بلا توقف في "مائة عام من العزلة" أو إصرار بطل إحدى قصص مكسيم غوركي على مساعدة صديقه رغم خيانته بحجة أنه "رفيقه في الدرب"، أو لحظة غرق البطلة في رواية "الغوص" التي تعود لذهني كلما كنت مستاءة وأبحث عن مخرج ما. ومشهد "أمي حصة" وهي تنقّي الرز وتخرج سوسة الرز لترميها بعيداً دون سحقها لأنها كائن حي على حد زعمها، الذي يعود لذاكرتي كلما طبخت الرز رغم أني لم أنهي قراءة الرواية بعد.


الوضع المرعب والمثير الذي وجد بطل إحدى قصص زوران جيفكوفيتش نفسه فيه عندما فتح صندوق بريده ذات يوم فوجد كتاباً كبيراً بعنوان "أدب العالم" فكان كلما أخذ الكتاب إلى منزله ظهر له مجلد جديد. أجدني أستعيد هذه القصة أكثر من جميع قصص "المكتبة" لجيفكوفيتش والتي بالكاد أذكرها، كلما نظرت إلى مكتبتي الورقية وتذكرت كيف كنت أتسلل إلى المنزل مخفية الكتب الجديدة عن أمي..


أحيانا يلمع في ذهني مشهد، إثر حديث ما أو رؤية حدث مشابه، وأحاول جاهدة تذكر اسم الرواية التي جاء فيها هذا المشهد، اروح أقلب بين رفوف المكتبة الورقية ومجلدات الكتب الإلكترونية باحثة عنه. أن تقلب ما يقارب 500 صفحة من أجل أن تبحث عن مقطع واحد قد يبدو جنوناً لكن متعة إعادة قراءة المشهد الذي أنت متأكد أنك قرأته في مكان ما تستحق ذلك. وهذا ما حدث تماماً عندما أعدت تقليب رواية "الساعة الخامسة والعشرين" لقسطنطين جيورجيو، أكثر من ثلاث مرات، بسبب ضخامة أحداثها وتشابكها، إلى أن وجدت المشهد الذي أتذكره كلما رأيت حافلة أو ميكرو مزدحم. حيث يصف جيورجيو كيف تم نقل 15 ألف سجين إلى معسكر آخر، فقاموا بحشر كل 70 سجين في سيارة تتسع لعشرة رجال فقط فكانت النتيجة أن تحول مشهد السيارة التي تغص بالأجساد البشرية المتداخلة إلى تجسيد حقيقي للوحة بيكاسو "غرنيكا" حيث تختلط الأجساد ومن كل جسد يخرج رأسين وخمسة سيقان، أو يكون هناك رأس بلا جسد، أو وجه بلا فم ولا معالم..


بالطبع بعض أنواع الأدب يضعك في جو خاص به وحده، فالرواية اللبنانية تضعك في قلب الحرب، السورية في السجون، المصرية في الفقر، العراقية في الهجرة، أما مجرد كلمة الأدب الروسي فتذكرني بالثلوج والبرد وليالي الشتاء الطويلة والشاي والسماور الذي يغلي دائماً في كل أعمال مكسيم غوركي، اسم حنا مينة يذكرني بصوت ولون البحر مباشرة، اسم دويستوفسكي يجعلني أشعر بالجو الخانق والعتمة، ربما لأن أول ماقرأته له كان رواية "الرجل الصرصار" التي تدور أحداثها في مكان ما يشبه القبر المظلم. اسم كافكا يشعرني بالتشوش واللاوضوح، لأن أول ما قرأته له كان حول رجل يروح ويجيء عبر الكثير من الأبواب بما يشبه المتاهة.


أخيراً، يقول خليل صويلح في كتابه "ضد المكتبة": “لست متأكداً تماماً، بأنني قرأت "آلام فارتر" لغوته، فأنا لا أتذكّر سطراً واحداً من رسائل ذلك العاشق المحزون الذي انتهى منتحراً، لكن ندبة ما، لم تغادر روحي جراء ذلك، إلى اليوم”.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء