قرأت رواية “الغريب” لألبير كامي، هذه المرّة، بشهية كبيرة.
قرأتها بترجمات ثلاث مختلفات في نفس الوقت، ترجمات متاحة (مسروقة في الأصل) على مواقع الكترونية انتشرت منذ فترة على الانترنت كالنّار على الهشيم، تُقدم كل ما لذّ وطاب من انتاجات الفكر والفلسفة والأدب وغيرها من الحقول والمجالات..
في فضاء افتراضي لا يزال عصيًا على التنظيم وبعيدًا عن سلطة التشريع والقانون، خاصة في المنطقة العربية.
رغم أن فكرة أني أقرأ رواية مسروقة ومتاحة بشكل غير قانوني، لم تفارقني على مدار قراءتي وجعلتني أحسّ بوخز ضمير، إلا أني بصراحة لم أستطيع مقاومة فعل القراءة مع كل ما يحمله هذا الفعل من سلطة وقوة وإغراء.
قراءتي هذا المرّة كانت قد تزوّدت بعُدة نقدية قبلية ومعلومات فنية مهمّة استقيتها من مقالات عديدة حول الرواية، ومشاهدات متنوعة لحوارات وتصريحات مقتضبة موزعة هنا وهناك على موقع يوتيوب للروائي ألبير كامي.
ولكن أهم محدّد لقراءتي الجديدة للرواية وطريقة تلقّي لها، تمثّل في نتائج الدراسة التي توصّلت إليها الباحثة الأمريكية أليس كابلان، ونشرتها في كتابها ذائع الصيت الموسوم بـ “البحث عن الغريب” وهو – حسب رأيي – من أهم ما كتب حول الرواية. فالباحثة حاولت أن تقرأ “الغريب” من خلال “حقائق” استقتها من تحقيقها الواقعي وتقصّيها لآثار حياة الروائي والحيثيات التّاريخية والثقافية المحيطة بكتابة روايته (العظيمة حسب البعض) حتى أنها توصّلت بدقة إلى الواقعة الأصلية التي ألهمت الروائي وتوصّلت إلى الهوية الحقيقية للعربي مُغيّب الاسم في الرواية.
ماذا إذن عن القراءات والتأويلات التي سبقت هذا الكشف العظيم؟ هل كانت مغالية في ذهابها إلى تأويلات وتفكيكات خلقت مستويات أخرى من المعاني ومتاهات أكثر من الأحكام؟
حين أٌقارن قراءتي الشّخصية الأولى وقراءتي الثانية للرواية، أجد نفسي أمنحها الحقّ في الإجابة عن هذا التساؤل الكبير؛ يمكنني القول أن قراءتي الثانية كانت أكثر انفتاحا على معاني موضوعية أمدتني بها قراءات غيري، وأكثر نضجًا من حيث محاولة فهم طريقة سرد النص والخطابات التي ربما تكون قد تخللته.
ولكني رغم ذلك لم أجد المتعة التي تملكت روحي ووجداني وعقلي وخيالي في المرة الأولى. في المرة الأولى كنتُ فيها قارئا حرًا؛ وكانت الرّواية ملكي أنا وملك تجربتي وخبراتي في الحياة. كنتُ إذ أقرؤها أكتبها مرة ثانية.
أما في المرة الثانية فقد كنت سجين الكاتب؛ سجين (عبثيته) أو (وجوديته) ربما. سجين أيديولوجيته المحتملة، ومواقفه المحتملة، وسياقاته الثّقافية وطريقة انخراطه فيه المحتملة..
ولم يكن فعل القراءة مريحًا، كان متعبًا ومليئًا بالمطبات. وإذاك فهمت جيّدا ما قاله أمبرتو إيكو من أن “من واجب المؤلف أن يموت بمجرد الانتهاء من كتابة عمله حتى لا يعكر مسار النصّ”.
لقد كانت قراءتي الثانية أشبه بنُسخ الرواية المسروقة في حد ذاتها!
ولكن، ما سر “الغريب”؟
لاشك أن “الرواية” على بساطة تركيبها واقتضاب جمل السّرد فيها، استطاعت أن تحقّق نجاحها باشتغالها على تعددية التأويل. وأن تحقق هدف الكاتب في فتح نافذة حول فلسفته العبثية من خلال حادثة حقيقية حوّلها/جرّدها إلى رمزية مشبعة بالمعنى. ومن ثم فإن العبثية نفسها قد تقود الكثيرين إلى مُحاكمة الرواية وإصدار أحكام عنها استنادًا إلى تأويلاتهم (المؤدلجة) تمامًا مثلما حدث لبطل الرواية. وتتمثل أهم القرائن التي قد تشجع على هذا الافتراض أساسا في: العنوان، الاستهلال والنهاية.
“الغريب”؛ هل أعمق من هذا العنوان، يحقق للرواية انفتاحها على شتى التأويلات والقراءات التي تروم فك معانيها؟
“اليوم ماتت أمي. أو لعلها ماتت أمس. لست أدري”؛ هل هناك استهلال آخر أكثر جاذبية يلخص فلسفة بأكملها مثل هذا الاستهلال؟
“بقي لي أن أتمنى شيئًا واحدًا: أن يحضر إعدامي جمع غفير، وأن يستقبلوني بصرخات حقد”؛ هل أقدر على خلط الأوراق وبعثرة الأحكام من هكذا نهاية، لا تنهي الحكاية إذ تنهيها ولكنها تدخلك في دائرة إعادة القراءة من جديد.
- باديس لونيس