معاناة الأدباء النفسية والجسدية
أضيف بواسطة: , منذ ٩ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 5 د

يقال أن قصائد الألم التي كتبها السياب في أعوام مرضه الأخيرة هي التي حددت مكانته كشاعر فريد على قمة الشعر الحر الحديث فهل صحيح أن المرض الجسدي أو النفسي يكون دافعاً للمبدعين إذ يضعهم في سباق مع الزمن ليحققوا بعض ما يحلمون به قبل انطفاء عمرهم، أم أن المرض يجعل نظرتهم للحياة سواداوية تحد من طاقاتهم وإمكاناتهم ومرحلة إبداعهم..

بدر شاكر السياب

أصاب الشلل رجليه فأقعده من عام 1961 وحتى أواخر عام 1964 حيث حول معاناته إلى شعر عذب رقيق. لم يكن الشلل وحده هو من أودى بحياة السياب في الثامنة والثلاثين من عمره وإنما كان فريسة لمرض آخر أخطر من الشلل هو التشاؤم المفرط والحديث عن الموت والقبر.

أتعلمين أي حزن يبعث المطرْ

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر

وفيه يشعر الوحيد بالضياع

بلا انتهاء

كالدم المراق،

كالحب،

كالأطفال،

كالموتى، هو المطر

مطر

مطر

مطر

المتنبي

كان مصاباً بالحمى التي لا تزوره إلا في الليل ويبدو أنها كانت تعاوده كثيراً ولا سيما في الليل مادفعه ليكتب عنها:

وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام

بذلك لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي

 

مارسيل بروست

كان مصاباً بالربو القصبي فمنع الطهو في بيته لأن رائحة الطعام تزعجه وكان إشعال عود الثقاب محرماً قربه لأنه لم يكن يطيق دخانه بل ومنع أحد أصدقائه من زيارته مختلقاً شتى الأعذار وما ذلك إلا لأن العطر الذي يضعه صديقه كان يؤذيه!

في روايته "بحثاً عن الزمن الضائع" يصور لنا مارسيل بروست الماضي الجميل الذي ضاع منه ولن يعود ويلخص تجربته في الحياة ومرضه المزمن الذي نغص عليه حياته ولكنه أخفق في العثور على ناشر لروايته وسخر أحد الناشرين قائلاً: "ليس باستطاعتي أن أفهم كيف يستطيع انسان أن يكتب ثلاثين صفحة يصف فيها كيف يتقلب على السرير من جنب إلى جنب قبل أن يستغرق في النوم!". ولعل أعجب ما قام به بروست أنه أرجأ مشهد موت أحد أبطاله إلى وقت يشتد عليه مرضه الربو ليستطيع أن يصف مشهد الاحتضار بدقة وأمانة! حيث أصيب في أيلول من عام 1922 بنوبة شديدة من الربو وعندئذ راح يملي على سكرتيرته "إن الموت يلاحقني وليس لدي وقت لأنهي كل شيء".. فانصرف طبيبه مغضباً لهذا المشهد، مشهد رجل يحتضر وهو منهمك في تنقيح روايته ووصف موت أحد أبطالها!

ديفيد هربرت لورانس والسل الرئوي

اعتبر لورنس كاتب فضائحي واتهمت أعماله بسوء الأخلاق فصودرت ومنعت فضاق صدره بمجتمعه الإنجليزي ورحل مع زوجته ينشد الراحة في أماكن أخرى لكنه وقع فريسة لمرض السل في السنوات الخمس الأخيرة من حياته ومات نتيجة لذلك عام 1930 ولم يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره. من مشاهير مرضى السل أيضاً: شارلوت برونتي، جون كيتس ومكسيم غوركي

 

جين أوستن وفشل الغدة الكظرية

كان الوصي على العرش الإنجليزي من أكبر المعجبين بآثارها الأدبية إلى حد أنه احتفظ بمجموعة كاملة من كتبها في كل قصر من قصوره والغريب أنه فعل ذلك وهو يعلم أنها تبغضه، فلقد قالت عن زوجته كارولين ذات يوم: "مسكينة هذه المرأة، سأكون عوناً لها ما استطعت، لأنها امرأة، ولأنني أبغض زوجها!". قال عنها الشاعر ولتر سكوت الذي قرأ روايتها "ألكبرياء والتحيز" ثلاث مرات "إنني أجيد الكتابة عن الأشياء الفخمة، ولكنني حرمت من موهبة جين اوستن، التي تجعل الأشياء الاعتيادية المألوفة ممتعة مبهجة". في أواخر حياتها أصيب بعجز الغدة الكظرية وتوفيت وهي في الثانية والأربعين.

الجاحظ وغدته الدرقية

سمي بالجاحظ بسبب جحوظ عينيه ولجحوظ عينيه أسباب عديدة أشهرها "الانسمام الدرقي" وهو مرض يصيب الغدة الدرقية فيزداد افراز هرموناتها التي تؤدي إلى جحوظ العينين. ويقال أن الجاحظ أصيب في أواخر حياته بالفالج ويبدو أنه نشأ عن الانسمام الدرقي، لكنه رغم ذلك استمر يقرأ ويغترف من كنوز الأدب وذات يوم وهو مقعد في بيته حاول أن يسحب كتاباً من بين كتبه الضخمة فسقطت تلك الكتب الثقال فوقه وقتلته ليموت الجاحظ تحت أكداس الكتب!

من الطرائف التي يرويها الجاحظ عن نفسه، أنه كان في السوق ذات يوم، فقابلته امرأة حسناء رشيقة القد، وأشارت إليه أن يتبعها، فتبعها حتى أوصلته إلى محل لصياغة الذهب، وقالت للصائع: مثل هذا.. ثم انصرفت.. ولم يفهم الجاحظ معنى كلامها، فسأل الصائغ عن ذلك، فأخبره بأن هذه المرأة قد طلبت منه أن يصوغ لها حلية عليها صورة الشيطان. فقال لها بأنه لا يعلم كيف تكون صورة الشيطان.. فقالت له بأنها ستأتيه بمن يشبه الشيطان.. وأتت بالجاحظ باعتباره شبيهاً بالشيطان، بسبب جحوظ عينيه!

جيمس جويس والقرحة الهضمية

عندما كتب مجموعته القصصية "أهالي دبلن" بعث بها إلى أخيه لعله يجد لها ناشراً فلم يوفق.. فقام جيمس جويس بطبع الكتاب على نفقته بعد صعوبات مالية جمة وعندما قدم إلى المطبعة لاستلام نسخ كتابه، أخبره صاحب المطبعة، أن شخصاً مجهولاً اشترى جميع نسخ الكتاب، ودفع ثمنها، ثم أمر بإحراقها في مكانها ومضى! فعاد إلى النمسا وفي جيبه ثمن نسخ كتابه المحروقة وفي قلبه نار تتأجج وعزم على أن لا تطأ قدماه أرض مدينته الجافية.. دبلن. سافر جويس إلى باريس لدراسة الطب ولكنه أمضى الوقت في قراءة الأدب في المكتبة الوطنية. شكل موت ابنته صدمة كبيرة له ثم جاء ضعف بصره وإصابته بالعمى تماماً ليزيد من شدة القرحة المعدية التي أودت بحياته أخيراً.

شوبنهور

كان الفيلسوف الألماني الشهير آرثر شوبنهور مصاباً بمرض عقلي يسمى البارانويا. يعتبره البعض مرضاً عقلياً مستقلاً في حين يصنفه آخرون كنوع من الشيزوفرينيا أو الفصام. وهو مرض يتميز بالخوف من الناس والشك فيهم واعتقاد المريض أنهم يدبرون له الدسائس والمكائد. كان يحسب أن الناس جميعاً يتربصون به ويخططون لاغتياله أو إيذائه ولهذا كان يحتفظ بغدّارة محشوة على أهبة الإطلاق ويضعها تحت وسادته وبجانبه سيف معلق ولو سمع ضجة في هدأة الليل سرعان ما يهب من فراشه مذعوراً.

وكان يحيط به هاجس المرض ويخاف أن ينقل له الناس عدوى الأمراض لذلك احتفظ معه بقدح جلدي يحمله أينما ذهب ليشرب منه الماء النقي وكان يحتفظ بأدواته في مكان أمين لا تصله الأيدي خوفاً من التلوث لو لمستها أيدي الضيوف والأصدقاء. كما كان يخبئ أمواله بعيداً عن العيون ويكتب حسابات أمواله بلغة غير لغته الألمانية إنما باللاتينية وذلك إمعاناً في الاخفاء والتضليل!

ولعل من أغرب الأوهام التي غزت عقل هذا الفيلسوف هي اعتقاده بأنه قد يشتبه بوفاته فيدفن وفيه رمق من الحياة لذلك أوصى أن يدفن عند وفاته في قبر مفتوح ولا يهال التراب عليه إلا بعد فترة زمنية تكفي للتأكد من وفاته!

 

..

المرجع: أمراض المشاهير وغرائبهم

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء