حشدٌ بشري مضبب ، الذي يراه والمترجرجُ في ذاكرته ، هو جسمان لأمراتين جميلتين ، والباقي من الحشد هو أصواتٌ وظلال ، وتتقلبُ أمام ناظريه أكواخُ سعفٍ ، ومستنقعات ، والصبي الذي يُقادُ في هذا المهرجان متوترٌ بهذا الاهتمام به ، وبهذا الموقع بين المرأتين ، والسير نحو منطقة الأكواخ المخيفة يبعثُ على شعور بالرهبة والخوف . .
كان يهمس :
يا أمي لا أريد أن أذهب !
خذ هذه الروبية !
كانت قطعة النقد هذه ثمينة . تضعها في يده عساها أن تجثم فوق مشاعره المتوترة وتغرقها .
المرأة الأخرى مضيئة ، فاتنة ، جاءت من بيت ثري ، فراحت تبعثُ في نفسه الطمأنينة .
الموكب يتوغل في تجمع بيوت السعف الرثة ، حيث أجسادٌ سوداء ، ورجالٌ عزابٌ يسكنون الأكواخ .
الطفلُ الذي كنتـُهُ يدخل الكوخ المعتم ، حيث رجلٌ يلبس ثوباً ويضع غترة ، هذا الرجل الغامق السمرة ، المتصل بالغيب والسحر ، يرعشُ جسدي حتى الآن ، هذا الرجل الذي رأيته مراراً ممسكاً بالأسياخ . . ستكون من وظائفه أن ينقلني من موتٍ إلى آخر .
ثمة ضباب وشخوص ذائبة في خيوطِ النورِ والظلمة ، وملاكٌ مرعب لا ينزل بكبشٍ من السماء ، بل يمسك سيخاً محمياً :
تقول أمي :
حتى يعيش أخوتك لا بد أن تــُكوى !
يدرك الطفلُ مهمته الصعبة الغامضة ، فثمة لعنة تصاحب وجوده منذ ظهر ، فهو قد طلع من بطنِ أمه التعبة المريضة متيبساً ، وتجمد مدة وسارعت نحوه أيدٍ ، وبعد حين لا يعرفه خـُيل لهم إنه رحل ، انتعشَّ وتحرك وصاح .
قالت الممرضات (لابد أن تسموه يحيى فهو يموت ويحيى) .
ثم كبر الطفل وتبعته سيرُ الموتِ ، أخوه الذي قبله والذي لم يره ، كان يلاحقه ، صار مسئولاً عن غيابه ، فلولا اللعنة لعاش ، إذن لا بد أن ينحني ويتقدم لهذه المهمة المخيفة ، حتى يعيش أخوته . وجاءه السيخ بألم لم يبق في ذاكرته .