الضباب
الضباب
1 ■
أي ليل جميلٍ هذا؟
تهبطُ النجماتُ إلى البحر ، تشتعلُ القناديلُ في الأعماق ، يمتلئُ الكونُ بنورٍ فضي ، ولا تتوقف الشهبُ عن زيارة البيوت ودوائر الظلام ، وتنزلُ الساحراتُ من المجرات البعيدة حاملات الصناديق المليئة بالذهب ، وتنثرُهَا فوقَ الشوارعِ ليتعاركَ البشر ، وتشعل النيرانَ ، وتخرجُ الحيتانُ من المياه لتبتلعَ السفن والصيادين ، وهاهي قطعُ الأخشاب المحطمة والصواري المقلوعة ، وقطع اللحم تتقلقلُ على الشاطئ.
دخنْ ، دخنْ ، وأجعلْ هذا السحرَ الأبيض بساطاً سحرياً ، يطيرُ بك فوق قبب المدن ، لترى الشوارعَ النازفةَ ، والحانات الجميلة ، والأنهارَ ، والهواء النقي الربيعي يغسلُ وجهك من جراح الماضي.
أين الماضي؟! لم يعدْ موجوداً ، وصرتَ حراً ، كالسحابة ، تذوبُ في الفضاء المترامي ، ومفجوعاً كالغرابة ، تتلاشى في الفراغ المتسع.
لا يذكرُ شيئاً ، ولا يريدُ أن يستعيدَ شيئاً.
يدخنُ ، يدخن ، بنهمٍ ، سيجارةً غريبةً كمركبةٍ فضائيةٍ تبتعدُ عن الجاذبية . تنهضُ السمكاتُ وتثرثرُ تحت قدميه . يلتحفُ برملِ الشاطئ وأوراقِ الشجرِ اليابسة ، يقطفُ الرمانَ ويشوي سمكةً على ضوءِ النجوم.
(أبتعدْ أيها الماضي ، ودعني أسبحُ في الفراغ الحر ، وحيداً ، ليس لدي سوى سطلِ مياهٍ ، وصدرٍ خاوٍ ، وشعرٍ أبيض ، دعني احلقُ في السماء ، وأنام مع تلك الفتاة الجميلة ، التي غسلتُ سيارتها اليوم . يا للوجه الملائكي!).
يسمعُ أصواتاً وضجةً . تندفعُ كلابَهُ بقوة . يرى النجمةَ القصيةَ تنزلُ إليه ، والفتاةُ تنظفُ ساقَهُ من الترابِ والأوراقِ الشاحبة . يسمعُ صراخاً ، ونباحُ كلابهِ يشتعلُ . تتعرى الفتاةُ من ملابسها الشفافة ، وتندسُ بين الأوراقِ ليضمها بحنو ، ويقبلها بلهفةٍ ، يرى ضوءاً ويسمعُ عجلات تصرخ وأنيناً وبكاءً وكلابه تندفعُ إلى جهة ما ويتلاشى نباحها.
لكنه يصهرُ الفتاةَ بين يديه فلا يجدُ إلا غصناً مكسوراً ورائحةَ عطرٍ مهاجر ، وينتبهُ للأنين المشتعل ، فكأن الأرضَ لم تذقْ اللذةَ وبكتْ ، وكأن السماء لم تنتشِ وانهارتْ . كأن الليلَ يتصدعُ.
نفضَ الترابَ من بنطلونه المهترئ ، والأوراقَ من شعره الكث الأبيض ، وطالعَ الوجوهَ . خرجَ من قوقعةِ الرملِ ، وصَدَفْةِ الحشيش ، وأبصرَ كأن حجراً يتحركُ ، وكومةُ ظلامٍ تنتفض.
دبَ على أربع ، كأنه يتشممُ ذبيحةً غادرتها النسورُ ، فأيقن من حرارة البكاء ، ووجود الذبيحة.
امرأةٌ تتلوى على التراب . وتنهشُ الحجرَ . تعضُ يديها وتبحثُ عن قطعِ فستانِها الممزقِ وعباءتِها المتوحدة بالظلام.
أقتربَ منها . انتفضَ جسمُهَا الممزق . لا يعرفُ ماذا يفعل . ينتفضُ هو الآخر ، يتطلعُ إلى الشارع البعيد ، إلى البيوت ، يصرخُ فلا تخرجُ صرخاتُهُ ، يزعقُ فلا يُسمعُ صوته ، يُمسكُ المرأةَ ، يضعُ يدَهُ تحت ظهرها ، والأخرى تحت ساقها ، ويرفعها ، كانت كالحمامة ، بكاؤها يتصاعدُ على صدره ، تضربهُ ، تصرخُ ، تبكي ، تخمشُ وجهه بأظافرها ، تصرخُ:
- اتركني . . اتركني!
وهو يندفعُ نحو الشارع ، دماؤها تبللُ صدرَهُ ، يجري ، أي ليلٍ غريب هذا؟
يسرعُ وحركتها تخفتُ ، وكأنها تنامُ أو تفقد الوعي . يلتفتُ إلى السيارات . لا سيارة ، لا تزال بين ذراعيه ، لكنها هادئةٌ كحمامةٍ ، تغفو بدمائها.
سيارةٌ مسرعةٌ قادمة! يندفعُ إليها ، لكنها لا تتوقف ، فيها رجالٌ ونساءٌ مسرعون ، إلى شيءٍ ما ، والمرأةُ بين يديه ، لعلها قد ماتت ، ساقُها الجميلةُ البيضاءُ ملوثةٌ بالدم ، لا ثيابَ داخلية صَمدت للضواري ، سيارةٌ أخرى قادمة ، تقف لحسن الحظ.
يصرخُ بالسائق ، الذي يفاجئُ بالجسدِ البض المنتهك ، ويجثمان في المقعد الخلفي ، ولا تزال هادئةً غارقةً في حضنه ، الهواءُ يغزو وجهَهَا وشعرَها ، تفتحُ عينيها وتستعيدُ الألمَ المنتفضَ والذكرى الحادة . تتكلمُ ، تهذي ، تندسُ في صدرهِ كابنةٍ ضائعةٍ ، وفجأة تصرخُ ، كأنها لمستْ الجلدَ الذكوري ذاته ، تحاولُ أن تمسكَ قبضةَ باب السيارة ، وتكادُ تفتحهُ لتنزلَ إلى الأرضِ المتسارعةِ لتتشظى وتذوبُ ، لكن يدَهُ كانت أقوى . التقت يدان غريبتان ؛ يدٌ معروقة صلبةٌ كقطعةِ حجر ، ويدٌ رقيقة صغيرة كورقةٍ من زهرة.
تجمدتْ اليدُ الوردةُ في حضنهِ ، وغفتْ العينُ المذعورةُ على صدره . والسائق ذو النظارة التي تخفي نظرته يسلمه إلى المستشفى ويلوذ ُ بالفرار!
إنتبهَ . . . !
إنه الآن ليس في حفرتهِ ، أمامه البنايات الهائلة والنوافذ المحدقة به . المصابيحُ كلها تسلطُ الضوءَ على وجهه ، وساقُ المرأةِ نافورةُ دم.
كلُ النوافذِ تصيرُ عيوناً مشتعلة ، والمحققُ يظهرُ من الممرِ المظلم ، والطبيبُ يصرخُ: هل رجعتَ ثانيةً يا أحمد؟
كلُ العيونِ تبحثُ عن تضاريسه وندوبهِ ، والرصيفُ المؤدي إلى الطوارئِ كبابِ جهنم ، سينفتحُ لترقص الثعابينُ والتنانين . هل يضعُها في هذا الممرِ النظيف ، ويجري نحو حجيرته ، ويندسُ في فراشه ، ويحتسي علبةَ بيرته الباردة الآن ، ويشعلُ الليلَ بآخر سيجارةٍ فضية تلقي كومةَ رمادٍ على نتفِ الأحزان المتبقية؟!
لكن ثمة يداً مجهولةً تقودهُ نحو الباب الزجاجي ، وشعلةٌ خفية تطردُ أشباحَهُ ، ويسيرُ بين الناس المذهولين بقوة.
موظفٌ وراء الزجاج ، يسألهُ ببرودٍ ، أشعلهُ:
- ما الذي حدث لها؟
- ألا ترى . . لقد أُغتصبت!
- من أغتصبها؟
- لا أعرف . .
- ما هو أسمها؟
- لا أعرف!
- ما هو اسمك؟
- . . . .
- ألا تعرف أيضاً؟!
- ما لك تحدقُ بي كأنني المذنب؟
- ألا ترى شكلك المغبر الغريب و . . هذا الورقُ الذي يملأُ شعرك؟ ما هو اسمك؟
آه فليتذكر إسمه! الآن قد تبدأ متاعبهم ، من يدري.
إنك تعرفهم . طالما طرتَ بعيداً عنهم ، إنهم . . صانعو التنور ، فلينزلَ إلى الأرضِ قليلاً ، وليتذكر إسمه حتى لا تكون تلك بداية الجريمة.
- نعم . . نعم . . إسمي أحمد . . أحمد ناصر!
- بطاقتك!
يبحث عن شيءٍ يثبتُ هويته . ليس لديه شيء . منذ زمنٍ بعيد . . . بعيد أضاعَ وثائقَهُ . الطبيبُ نصحهُ أن ينسى كلَ شيء . كل شيء.
وراحَ يسعلُ بشدة . وكان صدرهُ الهرمُ كسيارةٍ عتيقةٍ اهترأتْ ماكينتُها . إلتفتَ إلى الفتاة فلم يجدْها . لا شك إنهم يسعفونها . وقد إنتهتْ مهمته ، فلماذا يصر هذا على استجوابه؟!
وجد فاتورة كهرباء ، ولحسن الحظ كانت بإسمه.
ألقاها واندفعَ في الحشد.
2 ■
صباحٌ جميلٌ مشرقٌ ينهضُ فوق البناياتِ الكبيرةِ والفنادق والنوافذ المصقولة . الشمسُ عربةٌ فضيةٌ تتوغلُ في الأزرق الواسع العميق . السياراتُ غابةٌ من الحديدِ والمطاط مغروسةٌ في الساحة الكبيرة ، الصبيةُ يتخاطفون الزبائنَ عند تقاطع الشارع لكنه لا يتركهم ، ولا يعترفُ بالشيب ، وتراكم السنين ، ويركضُ من هنا إلى هناك ، يؤشرُ على السائقين ، ويندفعُ وراء السيارة بقوةِ شاب ، ويسألُ السائقَ ، ويفتحُ الأبوابَ ، ويبدأُ العملَ بهمةٍ ونشاط.
يغرقُ في العمل ، والعرق ، يحاولُ فصلَ ذاته ، من الجرائدِ الملقاةِ على المقاعد ، لا يفتحُ الراديو إلا ليسمعَ الموسيقى ، ينتزعُ نفسَهُ من المعلوماتِ التي تنهمرُ عليه كلَ يوم ، فكلُ السواقِ في منطقتهِ يعرفهم ، كلُ هؤلاء الموظفين والعمال والنساء ، السائرين كالمنومين مغناطيسياً ، وعندما يحاولُ صبيٌ أن يتذكر إسم الزبون ، ولا يستحضرهُ ، ينطلقُ إسمهُ من فمه ، ومعهُ بعضُ المعلوماتِ الهامة ، ليتطلع إليه الصبيةُ بذهول.
يحاولُ ، يحاولُ ، أن يطمسَ أشياءَ كثيرة تتصاعد كحممِ البراكين في ذاته ، قويةً ، ناريةً ، يقول أنه أميٌ ، لكن الصبيةَ يرونه قادراً على القراءةِ أكثرَ من لغة ، أحضروا له مرةً أوراقاً خاصةً لرجلٍ نسيها ، وكانت عليها كتابةٌ غريبة لم يعرفوها ، فتوصل إلى إسم الرجل وعنوانه ، وصار حجةً لهؤلاء الصغار ، الذين يذهبون للدراسة ، ثم يرجعون كباراً ، ويمتلكون سيارات يضعونها أمامه ، بكبرياء ، ليغسلها ، وينسون!
يحاولُ أن ينسى كلَ شيءٍ ، حتى أسماء السائقين ، أن يبترَ كلَ صلةً له بهذا السوق الواسع ، فكلُ علاقةٍ دائرة نارية سريعة الاشتعال ، وكل معرفةٍ لعنةً ، والحياةُ تراكمٌ للألم الممضِ ، ولا شيءَ جميلاً سوى النسيان ، والطيران فوق السحاب والأثير ، والدخان المشع ، الممزقِ للأشياءِ ، المُفتتِ للمادةِ ، للحياة ، للألمِ ، للأيامِ الحديديةِ التي تزحفُ كالآلاتِ فوق الصدور ، والعمر هباءٌ ، أو غباءٌ ، فأغسلْ جيداً ، وأمتلك الدينارَ تلو الدينار ، لتصعدَ فوق قمة النشوة بين أحضانِ امرأةٍ أو زجاجة أو سيجارةٍ مقدسة!
يحاولُ أن يكون جزءاً من جدار ، أو من غرفةٍ صلبة ، أن يزحفَ في الشوارع ، أن يتلاشى في الجموع المتلاشية ، أن يتجمدَ في العمل ، ويطيرَ في الليل!
جاءته سيارةٌ أخرى ، فاندفعَ إليها . انحنى للسائق متسائلاً . الرجلُ يحدقُ فيه:
- تشبهُ رجلاً . . أعرفه!
يفتحُ الأبوابَ ، والرجلُ يتمعنُ فيه . كم مرةً تطلعَ إليه مثل هؤلاء ، لكنهم لم يدفعوا اكثر من الآخرين . اقترب منه الرجلُ:
- ألستَ . . . أحمد ناصر؟
- نعم يا سيد ، ألا تريد أن أنظفَ السيارة؟
رمقهُ بدهشةٍ وحزن ، يمسكه من كتفه:
- ماذا فعلت بك الأيامُ؟ هل رأيت عاقبة الإدمان على الهموم والكتب؟!
تطلعَ فيه حائراً . هذه ليست أول مرة يـُذّكرهُ أحدٌ بالكتب والمصائب ، ذات مرة أخذهُ رجلٌ غنيٌ إلى فيلته الفخمة وكان يثرثرُ بلا توقف:
- هل ترى ذلك؟ إنني لم أصر مجنوناً مثلك . ما فائدة كل ما قلتَ وكتبتَ؟! إنظرْ إلى نفسك ، أنتَ تمسكُ سطلاً قذراً ، وتنظفُ السيارات . تطلعْ إلى بيتي ، إلى هذا الأثاث الثمين الذي جلبتهُ من إيطاليا . وعندما سترى زوجتي ستجنُ من جمالها . وأنت أين تعيش ، لا شك إنك تحيا في جحر!
وراح يضحكُ في سعادةٍ بالغة.
وهذا لا يزال يتحدثُ بغرابةٍ:
- أين ذهبتَ واختفيت؟ كنتَ رائعاً . ماذا حدث لك؟ لماذا تــُمسك هذا السطلَ القذرَ؟ ماذا حلَّ بك؟!
- عمن تتكلم يا سيد؟ ماذا تقصد؟ لعلك تشيرُ إلى شخصٍ آخر . ستكونُ سيارتُك نظيفةً وأغراضُك في مكانها تماماً.
- لا تتهرب مني!
- أنا لا أتهرب ، أنا مجردُ منظف ، رجلٌ بسيط ، بسيط جداً ، إنني لا أكتب شيئاً ، بل لا أعرفُ القراءةَ . عجوزٌ مسكين ، مسكين جداً . ماذا تريد مني؟ إنني لم أسئ لأحد . لم أفعل شيئاً مخلاً بالقانون . إنني أعمل هنا منذ سنين طويلة ، الجميعُ يشهد لي بحسن السيرة والسلوك . لم أسرقْ سيارةً واحدةً أبداً . أبداً!
يتمعنُ فيه الرجلُ بذهولٍ . يدعُ له السيارة مفتوحةً ، ليندفعَ إليها بهمة ، وتتجه يداه بدرايةٍ دقيقة إلى بقعِ الأوساخ ، وكوماتِ السجائر والرماد ، وآثارِ الأحذية . ينتزعُ الأسودَ والرمادي لتتألق السيارةُ بلونها الأخضر.
ذات مرةٍ أيضاً أزعجه رجلٌ غريب بمثل هذا الكلام . أركبه سيارته التي غسلها له ، وقادهُ على بار فخم ، وكان يقولُ عبارة طويلةً واحدة ، لكنها مبعثرة ، مملة: (كنتَ دائماً تشيرُ إليَّ بكتابتك . تصرخُ: هذا نموذجٌ دنيءٌ يجب التخلص منه! الآن أنظر أين أنت؟ وأين أنا . . . أنا أملك عمارة ومزرعة ولدى أسرة وأنام كل ليلة مع امرأة . . وأنت . . انظر إلى حالك!).
يلتفتُ . كانت ثمة سيارة شرطة متوقفة قربه . الشرطي يحدقُ فيه:
- هل أنت . . أحمد ناصر؟
ماذا حدث اليوم؟ الكلُ يردد إسمه وليس هو المقصود!
عندما أجاب على السؤال البسيط بالإيجاب ، وجدَ زوبعةً من الرجال تنتزعهُ من أرضهِ ، من سطلهِ ، من السيارةِ الخضراء الزاهية ، ليقبعَ في اللونِ القاتم للشاحنة العسكرية.
من هو أحمد ناصر ، الآخر هذا الذي يسألون عنه دائماً ، ويبحثون عن وجودهِ فيه ، هو الرجلُ العجوزُ ، البسيطُ ، الفقيرُ ، الذي لا يفهمُ شيئاً من هذه الحياةِ المعقدةِ؟ لعل الشرطةَ ، هي الأخرى ، تريدُ ذلك الشخص الذي يشبهه ، والذي إنتحلَ إسمه أيضاً . . لكن كيف لا يعرفه هو؟
المقعدُ المهتز يجعله يرتجفُ برداً ، ويتمعنُ في وجوهِ الرجالِ المحيطين به ،إنها غليظةٌ ، صامتةٌ ، متحجرةُ . إلى أين يأخذونه؟ هل سيطلقون عليه الرصاصَ في البرية ، ويتركون جثتَهُ للكلاب؟
آه ، الكلاب ، أبن اختفت؟ سمعتْ رصاصاً تلك الليلة؟!
كان دائماً يرقدُ قربَ البحر ، في تلك الحفرةِ المفروشةِ بأوراقِ اللوز الجافة ، فتأتي الكلابُ إليه ، تنبطحُ قربه ، تلحسُ أصابعه ، وتمؤ كالهرر ، فيتجهُ إلى البر ، ويلقي شبكته ، ويجرُ أسماكاً صغيرةً وكبيرة ، وتصيرُ دائرةٌ من النارِ على الشاطئ ، تتدفأ الكلابُ بجمرِها المضيءُ وأسماكها المتحولة.
تذكرَ! لقد حاولَ أن يتجهَ إلى الشاطئ فرأى العديدَ من المخبرين . آه ، المرأة!
منذ عدة أيام حدث شيءٌ غريبٌ له . الآن تبدأ الصورُ بالانبثاق . صورٌ حادةٌ ، مؤلمةٌ ، مزعجة ، صراخٌ في الليل ، صراخٌ رهيبٌ ، يهزُ قشرةَ الأرض ، يقلقلُ الحفرةَ التي إنحبسَ فيها ، وكان يدخنُ ، ويتمتعُ ، ويحلق ، ويسافرُ إلى مدينةِ الغزلان ، ويمشي بين المرايا المشتعلة . فيسمعُ الصرخاتَ الحادةَ العنيفةَ ، ليمضي إلى الجسدِ الجميلِ المشوهِ.
قبل ليلتين جاءتهُ ذاتُ الومضةِ ، وفكرَ أن يذهبَ إلى المستشفى ، ليقدم باقةً من زهورٍ يجمعُها من ذلك السياجِ الطويلِ قربَ البحر ، لكن المُخبرين ، الذين ملأوا المكانَ جعلوه يهرب.
ربما الآن استعادتْ عافيتَها ووعيَّها . كانتْ في حضنهِ . لعلها سألتْ أولَ ما وعتْ عنه : مَن الرجل الحنون الذي حملني كلَ هذه المسافة؟
من الأب الذي لم يَخلقني وأعطاني الحياة ثانيةً؟! هاتوه لي لأعطيه أجمل مكأفاة!
يَسترخي في مقعده . لعلَ صورةً كبيرةً تــُنشر له غداً:(الرجلُ الذي استطاعَ أن يؤكدَ القيمَ الإنسانيةَ في مجتمعنا!) ، (بطلٌ فذٌ يظهرُ من بين المغمورين!).
وانتشى ، وطار ، وود لو تكونُ معه سيجارة الآن ، ليسبحَ في الضبابِ الكثيفِ ، يغني في خمارةٍ مملؤةٍ بوجوهِ الأصدقاءِ الحبيبة ، يرقصُ ، يهزُ كلَ جسدهِ ، ها هو العجوزُ ، البطلُ ، الرجلُ الإنساني ، ينطلقُ في سحابةٍ من الدخان الممتع الساحر!
وفجأة ، يسقطُ ، يسقطُ على ضلوعهِ الواهنةِ ، متذكراً أصحابَهُ ، مذعوراً من صورِهم الشيطانيةِ ، إبراهيم بوجههِ الليلي ، وعتيق بعينيهِ الحمراوين ، والآخرين ، تلكَ الثلة من الضحكاتِ والجنونِ والعربدةِ ، ماذا لو استخدموا غرفتَهُ ، في غيابهِ ، لمزاولةِ الممنوع ، وعسكروا هناك ، واستخدموا الإبرَ ، ومات أحدُهم ، وها هم يقودونه إلى المركز ، لكي يوجهوا إليه تهمةً خطيرةً: (وُجد الميتُ في غرفةِ المدعو أحمد ناصر وكانت معه الأدوات المستخدمة . . ).
يا للكارثة! دائماً يأخذ إبراهيم منه المفتاحَ لينظفها ، كما يزعم ، وليجدها بعدئذٍ أوسخ مما كانت!
لكن السيارةَ العسكريةَ تعبرُ المركزَ وتتجه بعيداً .
طيورٌ تملأ السماءَ الزرقاءَ بالبياض . حقولٌ متروكةٌ لشمسِ الظهيرة ، وحمارٌ هزيلٌ مقيدٌ قربَ شجرة . ثم بيوتٌ . بيوتٌ ، تتراكضُ في الوجه . نوافذٌ وراءها عوالمٌ من الفرحِ والحزنِ والمتع ، وهو وحدهُ ، وحدهُ ، في جريانٍ مستمرٍ ، كفلينةٍ في شلالٍ دائمِ التدفق ، إلى مصبٍ لا يجيء . . متى يجيءُ؟ متى يغمضُ عينيهِ ليجدَ خاتون تترفق به . متى يحلقُ في الأعالي ، والضبابُ يحملهُ إلى المطلق؟
السيارةُ تجثمُ في المحدود ، والمستشفى يطالعهُ بهدوئهِ المباغت.
القيدُ ينقضُ ، كان طعمه بارداً ، على يديه!