الحق في عدالة جنائية ناجزة ( 130 صفحه)
الطبعة 1
الحق في عدالة جنائية ناجزة

الحـــق فـــي عدالـــة جنائية ناجـــزة

دراسة تحليلية تأصليلة مقارنة

        توطئة :            

        إنَّ العدالةَ قيمةٌ أخلاقيةٌ مستقرةٌ في الضميرِ الإنسانيِّ منذُ الأزلِ، فالعدلُ مِنْ أقدسِ التزاماتِ الدولةِ حيالَ مواطنِيها.

        والقانونُ الجنائيُّ بِشِقَّيْهِ الموضوعيِّ والإجرائيِّ هو أداةُ الدولةِ لحملِ مواطنِيها على التزامِ حكمِ العقلِ كلما انحرفوا عنه، فرسالتُهُ نجدةُ المظلومِ مِنْ طُغْيَانِ ظالمِهِ.

        والجريمةُ تنالُ مِنَ الشعورِ العامِّ بالعدالةِ، فتبعثُ الإحساسَ بالظلمِ، وتدفعُ بواعثَ الانتقامِ إلى الخروجِ مِنَ الذَّاتِ الإنسانيةِ للمطالبةِ بالثأرِ. فالجريمةُ نفيٌ للعدالةِ.

        وتأتي العقوبةُ عبرَ إجراءاتِ الدعوى الجنائيةِ لإصلاحِ كُلِّ ذلك، فَتُشْبِعُ  الشعورَ الاجتماعيَّ  بالعدالةِ. فالعقوبةُ نفيٌ للجريمةِ وهو ما يَعْنِي العودةَ إلى العدالةِ.

       وهنا يظلُّ التساؤلُ مطروحًا: هَلْ يمكنُ إطلاقُ التسليمِ بمحوريةِ دورِ العدالةِ في المجتمعِ دونَ تقيدٍ أو احترازٍ بمقوماتِ العدالةِ المنصفةِ؟

       ويقودنا هذا التساؤل لآخر : هَلْ تبقى العدالةُ حصنًا للمستضعفينَ وسياجًا مِنْ بطشِ المعتدينَ حتى ولو كانت خطواتُها متباطئةً متكاسلةً دافعةً ليأسِ الضعيفِ في أَنْ ينالَ حَقَّهُ، معززةً ليقينِ الظالمِ في أَنْ ينعمَ بظلمِهِ؟

        الإجابةُ قاطعةٌ والردُّ حاسمٌ: إنَّ العدالةَ البطيئةَ مِنْ صُوَرِ إنكارِها.

       فالمتهمُ؛ طولَ أمدِ الملاحقةِ القضائيةِ يهدد فرص الاتصال بشهوده ، فيرجح احتمال اختفائهم ، أو وهن معلوماتهم في شأن الجريمة حتى مع وجودهم مما يُثِيرُ أجواءً مِنَ الذُّعْرِ والقلقِ النفسيِّ والتوترِ الذهنيِّ المتصلِ؛ إذ يظلُّ ملاحَقًا بدعوى جنائيةٍ لا تبدو لدائرةِ شرورِها نهايةٌ في ظلِّ إجراءاتٍ متكاسلةٍ. ولا سيما إِنْ كانَ بريئًا فيصيرُ الْجُرْحُ لديهِ أبعدَ أثرًا وأعمقَ غورًا. ناهيكم إِنْ كانَ محبوسًا احتياطيًّا، فالخطأُ في حبسِ إنسانٍ يومًا واحدًا ؛ كفيلٌ بتبويرِ ما بَقِيَ في عمرِهِ مِنْ أيامٍ.

       وضحيةُ الجريمةِ؛ بُطْءُ العدالةِ بالنسبةِ لها خنجرٌ يمزقُها قهرًا، فتراودُها نفسُها إلى الانتقامِ الفرديِّ مِنَ الجاني؛ مِنْ بعدِ أَنْ يتبينَ لها  من بُطْءِ إجراءاتِ الدعوى الجنائيةِ أن عقمَها بادٍ. فيتفشى بذلك الاسترسالُ في الإجرامِ.

       والمجتمعُ؛ بطءُ العدالةِ يُفْقِدُ أفرادِهِ الثقةَ في النظام القضائي فيجعلُ منهم صورًا مشوهةً لمسخِ إنسانٍ ذي نفسيةٍ مريضةٍ ومحطمةٍ فاقدةٍ للانتماءِ لا تسعى إلا لتحقيقِ مصلحتِها الآنيةِ.

       ولتفادي الأضرار البالغة التي يحدثها بطء العدالة الجنائية (سواء بالمجتمع، أو بالمتهم، أو بضحايا الجريمة ) تبنت المعاهدات الدولية والدساتير الوطنية والتشريعات نصوصاً صريحة تحث السلطات المختصة علي سرعة الإجراءات الجنائية .

وفي مصر فإن الدستور المصري نظر لهذا الحق بطرف خفي في دستور 1971 وما تلاه من إعلانات دستورية ودساتير نهاية بالدستور الحالي الصادر في عام 2014  بالمادة 97/1 منه والتي نصت علي أن : " التقاضي حق مصون ومكفول للكافة وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي وتعمل علي سرعة الفصل في القضايا "

       ولا شك أن النصوص الدستورية ترسم الأهداف و المبادئ العليا المكونة للنظام الأساسي للبلاد ، و تتجرد من التفاصيل العملية والتي توكلها للنصوص التشريعية ، تلك الأخيرة التي تحوِل الحقوق الدستورية من قالب المبادئ العليا لمحتوي دقيق سهل التطبيق ، فتبعث الروح في الوعد الدستوري وتخرجه من طور السكون لرحابة التطبيق ؛ فيسبغ عليه الطابع العملي ليصير محدد المعايير ممتزج بتفصيلات التطبيق، ومناط الاستحقاق ، وجزاء المخالفة ، وغيرها من لوازم إعمال القواعد القانونية وتفعيلها.

       وقد فطنت إلي ذلك العديد من التشريعات ، وأدركت حتمية تناول الحق في محاكمة جنائية ناجزة بالتنظيم التشريعي والذي من شأنه أن يدعم النص الدستوري فالتعديل السادس للدستور الأمريكي قابله التشريع الفيدرالي " قانون المحاكمات السريعة " The speedy trial act )) و وعلي غراره نظم المشرع  الفرنسي الحق في سرعة الإجراءات بالقانون الصادر , في  15 حزيران سنة  2000  بشأن تدعيم حماية قرينة البراءة ، وغير ذلك من التطبيقات.

       بيد أن المشرع المصري لم ينظم بعد هذا الحق بقانون يحدد معاييره ، ونطاقه الشخصي والموضوعي ، وجزاء مخالفته ، والتعويض عن الأضرار الناجمة عن انتهاكه .

        مشكلة البحث :

       وَمِنْ هذهِ المعطياتِ ندلفُ إلى تحديدِ المشكلةِ التي نتصدى لها في هذا البحثِ والتي يمكنُ بلورتُها في التساؤلاتِ الآتيةِ:

       ما هي الوسائل الكفيلة بتدعيم هذا الحق ومنحه لأطراف الدعوي الجنائية ؟ ما هي العقبات التي تعرقل المشرع المصري في سبيل سن تنظيم تشريعي يبعث الروح في هذا الحق الدستور الخامل؟ هل المقومات الاقتصادية والبشرية من العوامل التي تحول دون إصدار هذا التشريع ؟ هل من سبل أخري بخلاف التدخل التشريعي من شأنها تفعيل هذا الحق علي أرض الواقع ؟

        مناهج البحث وَخُطَّتُهُ:

       اعتمدْتُ في هذا البحثِ علي عدةِ مناهجِ بحثٍ ففي المبحث الأول : ماهيةِ الحقِ في عدالةٍ جنائيةٍ ناجزةٍ  اعتمدت علي المنهجينِ التحليليِّ والتاريخيِّ  إذ لا يمكنُ معرفةُ ما هو كائنٌ إلا من خلالِ الكشفِ عن منظورِهِ التاريخيِّ وذلك عندَ دراسةِ الجذورِ التاريخةِ للحقِّ في عدالةٍ جنائية ناجزةٍ .

       واستخدمت المنهجَ التحليليَّ عندَ دراسةِ المبحث الثاني : مقاصدِ هذا الحقِّ وسبلِ تفعيلِهِ وتدعيمِهِ.

       ولما كانَ المنهجُ التأصيليُّ هو الطريقَ نحوَ تكوينِ المفاهيمِ وصولًا إلى التعميماتِ وردِّ الجزئياتِ إلى الكلياتِ، عن طريقِ الملاحظةِ ودراسةِ الفروضِ والبراهينِ وإيجادِ الأدلةِ فقررتُ الاستعانةَ في المبحث الثالث : التأصيلِ القانونيِّ للحقِِ في عدالةٍ جنائيةٍ ناجزةٍ  .

الزوار (502)