الوساطة كبديل عن الدعوي الجنائية ( 130 صفحه)
الطبعة 1
الوساطة كبديل عن الدعوي الجنائية


نبذة :

            تهدف الوساطة الجنائية إلي حسم الخصومة الجنائية عن طريق تدخل شخص من الغير (الوسيط) للوصول إلي حل نزاع نشأ عن جريمة يتم التفاوض بشأنها بين الأطراف المعنية (الجاني وضحية الجريمة) والذي كان من المفترض أن يحسم عبر إجراءات الدعوي الجنائية .

            يسعي البحث إلي تحديد ماهية الوساطة الجنائية ونطاقها وآثارها عبر دراسة تطبيقاتها في عدة تشريعات مقارنة (الفرنسي - البلجيكي - البرتغالي - الألماني – التونسي - المغربي - الجزائري) ويطرح تصوراً لتطبيقها في التشريع المصري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

توطئه :

        الدعوي الجنائية في حياة الإنسان - إن لم يكن من معتاد الإجرام - حدث استثنائي غير عادي ؛ فهي تسوقه مجبراً غير مختارٍ عبر إجراءاتها إلي ولوج مسالك نظام العدالة الجنائية وهو عنها وعن الإجراءات المتبعة فيها غريب.([1])

        فينقاد داخلها من مرحلة إلي أخري إن كان متهماً عبر إجراءات لا يعلم لدائرة شرورها من نهاية .

        ويتربص الحكم الصادر فيها إن كان من ضحايا الجريمة كيما يشفي غليله ممن اقترف في حقه جرماً .

        والدعوي الجنائية في الأصل هي وسيلة الدولة لملاحقة مرتكبي الجرائم كيما تنزل بهم العقاب لما نسب إليهم من اتهام فتمارس بذلك عبرها حقها في العقاب . علي نحو ترجو منه مواجهة الظاهرة الإجرامية وتروم به إلي إعادة تأهيل الجاني وإشباع الشعور العام بالعدالة.

        وهنا يثار التساؤل : هل تحقق الدعوي الجنائية دوماً المآرب السالفة ؟ أو في سياق آخر هل بمقدور الدعوي الجنائية بمفردها تحقيق الأهداف السابقة في جميع الخصومات الجنائية علي تعددها ؟

        وفي سبيلنا للإجابة علي هذا التساؤل نقر بأن الخصومات الجنائية تتنوع في محلها وتختلف في ظروف وملابسات ارتكابها وتتباين شخصيات مرتكبيها وطبيعة العلاقة بينهم وبين ضحايا الجريمة ؛ علي نحو يقودنا للقول بأن لكل خصومة جنائية سمات خاصة تميزها وتفردها عن دونها . فهل يسوغ معالجة كافة الخصومات الجنائية علي تعددها بذات الوسيلة وهي الدعوي الجنائية ؟

من هنا انطلقت الوساطة الجنائية " La médiation pénale  " كآلية جديدة لحل الخصومات الجنائية خارج الإطار التقليدي للدعوي الجنائية وإجراءاتها تفادياً لتعقيدات القضاء وكثرة شكلياته فهي تنهض على فتح قنوات للتواصل بين أطراف الخصومة الجنائية . ولاسيما في الجرائم التي يكون ضررها الغالب واقع علي ضحية الجريمة وكذا الجرائم البسيطة والتي يرتبط أطرافها بعلاقات سابقة علي الجريمة كالعلاقات الأسرية والعمل والجيرة ، أو الجرائم التي يقترفها المتهم في ظل ظروف تنبأ عن ضآلة خطورته الإجرامية أو تسفر عن حداثة عهده بالإجرام .

فعلى الرغم من الجدية التي يتبناها القاضي عبر الدعوي الجنائية من أجل أن يصدر حكماً ملائماً يحقق من خلاله تطبيق القانون وتكريس العدل إلا أن فكرة الوساطة تعتبر أنجح ؛ كون أن عدالة الأطراف المبنية على أساس الاتفاق تبدو أكثر أنصافاً من العدالة التي يطبقها القاضي بناءً على نصوص قانونية مجردة. ([2])

 فلا مراء في القول  بأن النموذج الذي تدخل في نطاقه الدعوى الجنائية هو نموذج العدالة العقابية  "La justice punitive " وهى عدالة تسلب الأفراد نزاعهم لتستأثر به الدولة . فضلاً عن ذلك ؛ فإن الشغل الشاغل للقضاة هو التوقيع النموذجي للعقوبة  أكثر من مراعاة المصلحة الخاصة لأطراف النزاع، بغية الردع سواء كان عاماً أم خاصاً. ([3] ) في حين أن الوساطة الجنائية تنتمي إلي أنماط العدالة التصالحية أو الإصلاحية  " La Justice restaurative " .

فالوساطة الجنائية أسلوب توفيقي بين أطراف النزاع بمساعدة الغير- الوسيط- أملاً في الوصول إلي حل رضائي بينهما دون الحاجة إلى مرورهما بالإجراءات الجنائية التقليدية ، فهي أحد الحلول البديلة للدعوى العمومية لحل الخصومات الجنائية جاءت استجابة لضرورة تبني سياسة جنائية حديثة تقوم على المصالحة بين أفراد المجتمع وجبر الضرر بالنسبة إلى الضحية وإعادة إدماج الجاني للمجتمع وترتكز علي فلسفة مفادها أنه لا يوجد شخصان لا يتفاهمان ؛ وإنما يوجد شخصان لم يتناقشا ([4]).

        وعلي صعيد مختلف تعد الوساطة الجنائية وسيلة فعالة في علاج الزيادة الهائلة والمستمرة في أعداد القضايا التي تنظرها المحاكم الجنائية [5]، كما أنها أصبحت في الوقت الحاضر وسيلة لضمان تعويض المجني عليه، وتفعيل مشاركة الأفراد في نظام العدالة الجنائية.

         بالإضافة إلى اعتبارها وسيلة اجتماعية مناسبة لعلاج الآثار المترتبة عن الجريمة والتي يصعب على المحاكم التعامل معها، فضلاً على أن الوساطة تشجع طرفي الخصومة الجنائية على المشاركة الفعالة في إدارة نظام العدالة الجنائية.


الزوار (989)