ذائقة الموت ( 416 صفحه)
الطبعة 2 , سنة النشر 2013
ذائقة الموت
"لملم بقاياه، وجمع روحه المتناثرة على الممرات ووزع أحزانه على الجدران، وتخلّص من همومه بإلقائها على جناح ذبابة داعيت أنفه في تلك اللحظة، حمل معه ما تبقى من أوراقه ومن مسودات رسائله. وروايته؟!... أخذ كل صفحة منها على حدة، وعند بوابة السجن مزقها إلى نتف صغيرة ونثرها في الهواء، لقد كانت عن الحرية وحُقَّ لها أن تنال الحرية بعد أن عانت معه طوال هذه الفترة القاسية في السجن، نظر خلفه وهو يخرج من البوابة السوداء فرأى طيفه يبتسم له يودعه ويصعد إلى الأعالي، خرج إنساناً آخر، صنع منه السجن كائناً بشرياً آخر، ليس شرطاً أن يكون مخالفاً لذلك الذي كان دخل، ولكنه بالضرورة مختلف تماماً. استقبله أبوه في الطريق الخرساء، عانقه بحرارةِ طفل يعود إلى أمه، وأمسك يده وهوى عليها يقبلها، إنساحت بعض الدموع الحارة من عينيه على كف أبيه، فبعثت فيه حرارة الأبوة...!! دخل بيته فرآه موحشاً وأسوداً داكناً… لثم الطريق التي كانت تمشي أمه عبرها، وشمّ غطاء رأسها وغطى به وجهه، وتحسس الكرسي الذي كانت تجلس فوقه، ثم أهوى عليه يحضنه كما لو كان يحضن أمه فيه، ثم ركن خدّه على مسند الكرسي كما لو كان يسنده في حجر أمه وراح ينتحب بصوت عالٍ!!... أيقن أنه لا يمكن أن يجد فتاةً أخرى مثل (منى) في كل نساء الأرض، وشعر أنه لا يمكن أن ينظر بعيني إمرأة أخرى، وأنه فقد قيمة الإحساس بالأشياء، هانت الدنيا في عينيه حتى عادت كأنها لمعُ برقٍ خاطف في ليلة شتوية سرعان ما انطفأ، وكذبت كأنها حلم ذاب في الصحو، وامّحت كأنها سراب جاءه ظمئاً، وعاد منه أشدّ ظمئأً... قالت له (حياة) وهي لا تكفّ عن البكاء كلما خاطبته... إنها الأقدار؛ حظّ الناس من العيش لم يكن يوماً بأيديهم، نحن لا نرسم حياتنا كما نهوى... كان لا يرد؛ يطرق كقبر... لم يعد في فمة كلمات ليقولها... كل الذين كان الممكن أن يستمعوا إليه رحلوا قبل أن يفوه بما يريد... كان لا يغادر بيته إلاّ إلى المقابر كي يزور الراحلين كلما ثقبَ الحنين قلبه... ظل ستة أشهر على هذه الحال استل فيها المرض صحته منه وتربع مكانها. أقنع أباه في النهاية أن يذهب إلى الجبال ليتخلص من وجع الذكرى... لكن إلى أين؟!!! إلى قمة ابن جبير، أم إلى بيدر القمح؟! إلى الكهف حيث النار... أم إلى الوادي حيث الموت، قبل أن يصعد القمة المشهودة دخل المقبرة على رؤوس صباباته، وعند قبرها صلى صلاة الحبّ، ودعا دعاء الشوق، ونزف حتى بلّ بالدم جوف الثرى، وارتجف حتى سقط عن كاهليه رداء الحياة، واحتضن شاهد القبر بلوعة حرّى. وقبل أن يغادر وضع عند رأسها الرسالة المئة... يمّم بإتجاه الجبال في ليلة ظلماء واجبه، تجاوز الساحة المحرّمة وأوى إلى الكهف... على باب الكهف أوقد النار وراح يتأملها طوال الليل، وحين غلبه النعاس نام في جوفه، كان الكهف يحوي في طرفه الأعمق سرداباً ضيقاً، ولم يكن يدري إلى أين يفضي. في الليلة الثالثة أضاء في السرواب مئة شمعة، وقرأ رسائله المئة رسالة رسالة، كلما أنهى واحدة ألقمها النار المتّقدة... شعر بعد الرسالة المئة أنه تخفف من كل وجع سابق ونام، في النوم حلم بأنه يقف أمام باب الكهف، لم يعدّ مهماً أن يكون ذلك حلم أم حقيقة وضع يده في حقيبة صغيرة استقرت على جانبه وأخرج منها قطعة خبز طرية، مدّ بها يديه ورفعهما إلى الأعلى قليلاً وخفض هامته، أغلق عينيه وراح يتمم ببعض العبارات، لم يكد يبدأ بتمتماته حتى توافدت إليه طيور ذات ريش فستقي، وراحت تنقر من الخبز الذي بين يديه، رفعهما إلى الأعلى من جديد فهوت أسراب كثيرة من الطيور إليهما، قربها من رأسه ثانية؛ فأخذت الطيور تأمل من رأسه، تركها تفعل ذلك وهو يشعر بالنشوة، وحين شبعت الطيور حلّقت عالياً وهي تشدو. أما هو فمشى طويلاً في درب خيّل إليه أنه مشاها من قبل... نعم؛ بدت له المقبرة من بعيد تلوح بكامل موتها، حين وصل إليها صعد على سورها وراح يمشي فوقه، كان يمشي مغمض العينين، وحافي القدمين، ظلّ يمشي على ذلك السور حتى دار دورة كاملة حولها، وقبل أن يتم ذلك بقليل فتح عينيه فشاهد الموتى يخرجون من قبورهم، ويهتفون مرحبين، أرعبه المشهد فتأرجح في مكانه، لم يستطع أن يحمي نفسه من السقوط داخل المقبرة، فسقط!!!... كما في البدء... مشى على سور المقبرة الخارجي... على ذاك الجدار الرفيع، في قلب الظلام مغمض العينين... تابع سيره، تدارك جسده عندما اختلّ توازنه وتابع السير... ولكنه وبعد نهاية المشوار... وعندما استعاد تجربته تلك مع نهاية المشوار... وعندما اختل توازنه فهو يسير على نفس ذلك المكان... على سور المقبرة... سقط... وابتلعه الزمان كما المكان. رحلة... وقلب غمره الوجع إلى حدّ التلاشي... طفولة احتضنت ذكريات أقسى ما فيها وفاة شقيقة روحه سمية... وأحلى ما فيها طيف حبيبة هي منى أطلت فظللت تلك الحياة المتعبة الذي هام صاحبها وهو واثق ذلك الواثق وراء وهم اسمعه الحرية... الإنعتاق من الألم... من ظلم السلطة.. ومن لوعة الإستبداد... لينتهي به المطاف بعد إعتقاله مرات ومرات منطلقاً وراء قضبان... قضبان سجون... وقضبان حياة سجنت روحه... تحرر لاهثاً وراء طيف أحبته ليلقاهم بعد حلم طويل... فعندما وجدوه في السرداب في صبيحة اليوم الرابع الذي أوى فيه إلى الكهف... كان هو... ما يزال محدداً على جانبه الأيمن، طريّ الجسم، نديّ الرائحة، وحوله تحوم بعض الفراشات البيضاء، وعلى جبينه شعّت هالة من النور، وعلى شفتيه ارتسمت إبتسامة واثقة!!!...
الزوار (957)
نسخ مشابهة