كيان ( 156 صفحه)
الطبعة 1 , سنة النشر 1983
كيان


وتعالى صوتها غناءً. وتسلسلت النغمات في الجو صلوات اثيرية. وفتح أهالي القرية كوى دورهم. واشرأبّت الرقاب من الطاقات الصغيرة، وارتفعت الأهداب، ثم ترقرقت الدموع في العيون... وظلّت الفتاة تسير في الطرقات الضيقة، وتصدح بهذا الصوت الصافي الذي لا تسعه الدروب... وحملت النسمات اللحن الجريح الى الهضبة، والى البيت الكبير المختفي بين الأشجار. لكن نافذة لم تفتح هناك. وابتلع الهواء النبرات الذهبية. كان اسمها كيان. وكان الكثيرون يظنونه مستلهماً من بلاد الصفر، ويعجبون كيف تحمل هذه الفتاة التي قطرتها شموس القرية، اسماً غريباً كهذا. لكنهم تعودوا اسمها. كما تعودوا غرابة شكلها وتصرفاتها. كما تعودوا، منذ آلاف السنين، الصمت!... منذ آلاف السنين صمت أهالي القرية. تكلموا في البدء. تكلموا جميعهم في آن واحد. تكلموا كثيراً. فما سمعهم أحد ولا سمع بعضهم بعضاً. فهرعوا الى الحقول ساخطين، يصبّون نقمتهم على العشب الأخضر. وقطفوا بقلة طرية كانت تنبت في المنطقة، وقضموها. فلذّ لهم طعمها. وتعودوا منذ ذلك اليوم أن يمضغوا البقلة فتحولت طاقات لسانهم الى التلذذ بالطعم المألوف، ونسوا النطق، وبعضهم تناساه... أما هي، فقد غنّت منذ أن فتحت عينيها للنور. أطلّت على الدنيا مريضة. كان أيّ جهد تقوم به يؤثر في قلبها، ويهدّد حياتها. وكان مضغ البقلة يسبب لها أوجاعاً، فعافت نفسها عادة مضغ العشب... وحدها بين أهالي القرية كانت مريضة. ووحدها بين أهالي القرية كانت لها أمنية غريبة: أن تنبت النغمات الصافية أشجار محبة على الكوى، وفوق الهضبة، وفي النسمات، وحنايا النفوس. وكانت تودّ أن تروي بصوتها هذه الأشجار العطشى، فقد كان حبّ القرية يجري في عروقها غناءّ

الزوار (726)