لو أن مسافرا في ليلة شتاء ( 340 صفحه)
, سنة النشر 2013
لو أن مسافرا في ليلة شتاء

 

"طريقتى فى كتابة النثر هى اقرب الى طريقة الشاعر فى نظم قصيدته..عند كتابة لو ان مسافرا فى ليلة شتاء كان هدفى رواية تقوم على الفانتازيا بكاملها وان اجد بهذه الطريقة حقيقة لايمكن العثور عليها بطريقة اخرى"..هكذا تحدث ايتالو كالفينو عن رائعته :"لو ان مسافرا فى ليلة شتاء". هكذا تكلم الكاتب الذى يستريب فى الكتاب الذين يدعون انهم يقولون الحقيقة كاملة عن انفسهم او عن الحياة والعالم بقدر ماكان مهموما ببنية فى داخلها يمكن ان تعبر شخصية الكاتب عن نفسها بحرية.

 

ولعل رواية "لو ان مسافرا فى ليلة شتاء" تبرر وتوضح بالفعل سبب تحذيرات لنقاد من استخدام مصطلح "قارىء" بغير حذر بعد ان ظهرت دراسات جديدة حول نظريات القراءة وتصنيفات للقراء الى فئات عدة، فهناك "قراء نصيون" وهناك قراء خارج النص" وهناك "القارىء الضمنى الذى يعبر عن التصور الموجود فى ذهن المؤلف عن القارىء الذى يتمناه " وهناك "القارىء داخل النص والماثل فيه والمشارك فى صنعه" مثلما فعل ايتالو كالفينو فى روايته :"لو ان مسافرا فى ليلة شتاء".

 

لكن ايتالو كالفينو تجاوز فى "لو ان مسافرا فى ليلة شتاء" هذا المفهوم "للقارىء الضمنى الذى لايظهر مطلقا خلال العمل وانما يومىء اليه النص عبر سياقاته ومن خلال ايديولوجية المؤلف" كما تجاوز نموذجا اخر للقارىء قدمه جير الدين برنس اسماه:" المروى عليه" وهو نموذج اشبه بشهريار فى الف ليلة وليلة حيث يكون "المروى عليه خاصية نصية فاعلة فى النص وتكون له وظائف عدة مثل التوسط بين الراوى والقارىء الفعلى وتشخيص الراوى وتوجيه السرد".

 

و"فى سياق ذلك البناء الابداعى" على حد قول فرانسين دو بليسيس جراى فى صحيفة نيويورك تايمز "تتفتح براعم القصص وزهور الكلمات وتلوح صفوف روايات بأكملها لكنها لدواعى الوقت وضرورات الزمن واشتراطات الظروف المعقولة لاتنتهى ابدا ولاتكتب لها كلمة النهاية".

 

هذه الرواية التى تشكل بحق درة التاج فى ابداعات كالفينو والتى صنفها نقاد ضمن قائمة افضل مائة رواية عالمية فى تاريخ الأدب تقدم حلولا مغايرة للسائد والمألوف بشأن مفهوم القارىء الذى قد يكون اكثر ثقافة من الكاتب وعمليات القراءة وتستولد من رحم الكلمة قارئها وكاتبها فى شراكة ابداعية اصيلة بقدر ماتطرح وظائف جديدة للقارىء لم يألفها "القارىء من خارج النص ولا القارىء الضمنى ولا المروى عليه" وفى الوقت ذاته فانها تطرح تصورا جديدا لفعل الكتابة وفعل القراءة.

 

انها بنية تعبر عن خيال مبدع جسور ومعرفة راسخة بالواقع والتاريخ والعالم وعندما يدخل القارىء عالم كالفينو كما تعبر عنه رواية :"لو ان مسافرا فى ليلة شتاء" سيدرك انها رواية بحاجة لقراءة خاصة جدا لكاتب قال يوما ما "ليس لدى وقت للملل" وهو ذاته الذى وصف يوما ما بأنه "اعظم قاص ايطالى معاصر".

 

قد يشعر القارىء فى البداية بنوع من الصدمة وبشىء من الانشطار وكثير من الدهشة لكنه سيدرك انه كان لابد وان يقرأ هذه الرواية ببنيتها غير المسبوقة حيث يتجلى معنى السرد الحداثى مع لذة هى محصلة اللقاء الموعود بين سلطة الخيال وحقائق الواقع مع خبرة التمرد على السائد والمألوف فى هذا الواقع.

 

صحيح ان كالفينو اظهر فى غير عمل احتفاء بفعل القراءة لكنه فى هذه الرواية يمضى بعيدا فى حفاوته بالقراءة والقارىء من البداية للنهاية ان كانت هناك نهاية او بداية فى عالم يراه ناقصا دوما!.انها رواية عن سعى الانسان للكمال فى عالم ناقص ورغبته فى ان يكون هناك معنى وسط عالم من العشوائية والفوضى فيما القارىء يواصل محاولة العثور على الفصل التالى فى الكتاب الذى يقرأه .

 

هذا الاهتمام فى الواقع جزء اصيل من اهتمامات ايتالو كالفينو بقضايا اللغة ككل وهو مايلمسه قارىء رواية :"لو ان مسافرا فى ليلة شتاء" فيما يقول عن عمله:"مدن لامرئية انه كتاب موضعه يقع مابين الشعر والرواية" اما عملية الكتابة وتقنياتها وهمومها فهى هنا قصة اخرى بل قصص وقصص تخلق كتابها كما تستولد قرائها بشبكة علاقات تعبر عن خيال مذهل طال حتى صناعة الكتاب وعالم النشر!.

 

المعنى كما يحاول كالفينو ان ينقله لقرائه فى سياق حديثه عن فلوبير و"البصرية الروائية" واكتمال العلاقة بين القول والصورة هو "الاقتصاد الى اقصى حد مع اقصى حد من الفائدة" فالعالم المرئى قد يتمثل فى سجادة او رسم صغير او فى زجاج معشق "لكننا نحيا هذا العالم من الداخل كما لو كنا نحن ايضا صورا منسوجة او مزخرفة او مكونة من قطع زجاج ملون".

 

النص هنا بمعانيه غير المعتادة تطبيق ابداعى سابق على اخر كتاباته التنظيرية :"الوصايا الست للألفية القادمة" وتتناول بصورة عامة استراتيجية الكتابة عبر وصايا تحدث فيها عن السرعة والخفة والدقة والوضوح والتعددية والتماسك فى عالم يفتقر للكمال ويبقى الفن فيه هو العزاء بمحاولة التغلب على حسرة النقص.

 

ويؤكد ايتالو كالفينو على ان الانسان المعاصر "ممزق ومنقسم وغير مكتمل" ..فاذا كان الكمال يخفى فى ثناياه فشل اى شكل كامل او تام فى عالم ناقص فان الشكل لابد وان يكون ناقصا.مشطورا.مبتورا.منقسما. ومتشظيا احيانا..هل نقول انه الشكل المستلب للتعبير عن واقع انسانى مستلب فيما يسعى المبدع ايتالو كالفينو عبر ادراكه لهذا النقص الجوهرى للوصول الى صيغة جديدة للكمال ؟!. فى بعض كتاباته تحدث كالفينو عن نوع جديد من التكامل وهذا التكامل على حد قوله "يشكل النواة الأيديولوجية الأخلاقية التى كنت اريد اضافتها بوعى للقصة ولكن بدلا من ان اعمل على تعميقها فلسفيا فضلت ان اعطى للرواية هيكلا يعمل عمل آلة متكاملة ثم اكسوها لحما ودما من التراكيب الخيالية الشاعرية".

 

"ولكن بعد ذلك وشيئا فشيئا اصبح التصميم من الأهمية بمكان حتى انه حمل على عاتقه الكتاب كله..صارت الحبكة خاصة بكتاب لاحبكة له..ومع قلعة المصائر المتقاطعة يمكننا قول الشىء ذاته:المعمار هو الكتاب ذاته..وعند ذلك كنت قد بلغت درجة من الهوس بالبنية تكاد تجعلنى مجنونا بها ويمكن القول ان كتاب لو ان مسافرا فى ليلة شتاء ماكان له ان يخرج الى الوجود بدون بنية فى غاية من الوضوح والدقة..اعتقد اننى نجحت فهذا وهو مامنحنى رضا هائلا".

 

وايتالو كالفينو الذى رأى ان فكرة وضع الأدب فى المقام الثانى بعد السياسة هى خطأ هائل لأن السياسة لم تستطع ابدا ان تحقق مثلها العليا فيما يمكن للأدب ان يحقق شيئا ما" هو ذاته الذى اجاب على سؤال :"هل الروائيون كذابون واذا لم يكونوا كذلك مانوع الحقيقة التى ينقلونها؟" بقوله:"ينطق الروائيون بكسرة الحق المخبأة فى قاع كل كذبة".

الزوار (2266)
نسخ مشابهة