الكتابة بالطباشير مقالات في الفن والأدب ( 125 صفحه)
الطبعة 1 , سنة النشر 2006
الكتابة بالطباشير مقالات في الفن والأدب
أيـها القارئ العزيز، حـذار أن تصدِّقَ عنوان هذا الكتـاب! فكتابته لم تتم وتتحقّـق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشيـر! فهي ليسـت بالكتابـة السَّطحية التي يمكن أن تُمسـحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحـق، وفي غير مغالاة، كتابـةٌ بالحفـر العميـق في حقائقَ وظواهـرِ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثيـّة والمعاصـرة عامـة، التي تظلُّ تتابعنـا وتلاحقـنا بعد قراءتهـا. ولهذا أرجو أن تتأهَّبَ في قراءتك لعمليتيْ هدمٍ وبناء- معرفيًّا وموقفًا في وقت واحد- حول العديد من همومنـا الثقافيـة والحياتيّـة السائدة والمهيمنة. والحق أن قراءتي لفصول هذا الكتاب، على تنوّعها ووحدتهـا معًا، كانت لحظةً معرفيّةً حضاريّةً متنامية، تجمعُ بين تراثِ الماضي الإنسانيّ بعامة، وليس القوميَّ فحسب، وأزمةِ الحاضـر وجسارةِ استشرافِ المستقبل. فلقد وجدتني في حضرةِ كاتبةٍ على مستوى رفيعٍ من الامتلاك العميق الحيّ لثقافتنا العربيـة، لا من حيث لغتها رفيعة المستوى فحسب- وهذا أمر ندُرَ عند العديد من كتابنا- بل في تراثِها الإبداعيّ الفكريّ والأدبيّ والبلاغيّ كذلك، فضلا عن معرفتها وتمثّلها الجوانب المهمة من التراث الثقافي الإنسانيّ الغربي والشرقيّ على السواء، وبخاصةٍ في توجهاته وخبراته المتمردة والمتجاوزة للمفاهيم السُّلطويّة والأحاديّة والمركزيّة والإطلاقيّة والغائيّة المفروضة. واستطاعت الكاتبةُ باقتدار أن توحّد في هذا بين أحدث الخبرات الإبداعية في مجال التعبير الأدبيّ من ناحية ومجال فـنِّ المعمـار الهندسيّ- وهو واحدٌ من تخصّصاتِها- من ناحية أخرى. هذا الفـنُّ الذي كان طليعةَ الاتجاه ما بعد الحداثيّ وملهمَه في الفنِّ والأدب على السواء، هذا فضلا عن استبصارها الحميم بالتداخل بين العِلْم من ناحية والفـنِّ والأدب من ناحية أخرى. إنها بحق محاولة جادّةٌ عميقة تكشف ما بين مختلف المنجزات والحقائق الإبداعية من تواصلٍ وتفاعل خلاّق. ولهذا تقول الشاعرة والمعمارية "فاطمة ناعوت" في فصل بديع من فصول كتابها هذا بعنوان "العمارةُ والشعر": " حين قرأتُ حواراتِ أفلاطونَ الأربعة لأول مرة، اندهشتُ كثيرا لأنني لاحظت أن آليةَ الحوار وتسلسَله خطوةً خطوة، وصولا إلى النتائج والنظريّات، تتطابق مع آليةِ تحقيق نظرياتِ الهندسة الفراغية ونظريات الجبر والمنطق الرياضيّ". على أن هذه الرؤية الكاشفة الحميمة بين مختلف المنجزات العلميّة والفنيّة والأدبية التي تتميّز بها هذه الكاتبة لا تقف في كتابِها هذا عند حدود العلاقة بين الحوار الأفلاطونيّ والنظرية الهندسيّة، وإنما نتبيّنها كذلك منهجًا عامًا في طرائق تناول العديد من القضايا وبخاصة معالجتها البالغة الخصوبة لقضيّة الترجمة في مقال "مرآة ابن رشد" على سبيل المثال. فالترجمة عندها ليست مجردَ نقلِ المخطوطاتِ والكتب من لغةٍ إلى لغة بل هي "العملُ على احتلالِ درجةٍ أرقى من درجاتِ العبور والاختراق كي تلجَ وتنهلَ من "الجوهر العميق" لروح حضارة أو فكر ما."، وتقول أيضًا: " وبإجراء قراءة سريعة للتاريخ، سوف نجد ارتباطًا، يكاد يكون شرطيًا، بين ازدهار وُرقّي مجتمع وبين انتعاش حركة الترجمة فيه وتكريس مبدأ الاتصال الثقافي مع الحضارات الأخرى. ولنا في واقعنا العربي خير مثال. لم تنتعش الحضارة والفكر الإسلاميان مثلما حدث في عصر المأمون (813-833م)، الذي جاهر باعتناق فكر المعتزلة بما ينطوي عليه من إعمال "العقل"، عوضًا عن "النقل" السلفيّ الجامد الأعمى، وإزكاء شعلة التنوير بين أرجاء الأمة". وإذا انتقلنا من هذه القضية العامة أي قضية الترجمة، سنتبين نفس المنهج الكاشف عن العلاقات والتفاعلات على طول هذا الكتاب- على تنوّع موضوعاته- في قضيّة جزئيّة هي قضية "النحو والصرف" في اللغة العربية. ففي مقال "ما وراء سقوط سيبويه"، التي شاركت به الكاتبة مشاركةً إيجابية في الندوة حول كتاب شريف الشوباشي "لتحيا اللغة العربية، يسقط سيبويه"، تعرضُ فاطمة ناعوت لقضية النحو عرضًا نتبيّن فيه نفس هذا المنهج الحريص على كشف العلاقات والتفاعلات بين عناصر القول وأبنيته، فتقول: " من الدلائل الأخرى على عبقرية الموسيقى في علم النحو مادة "الممنوع من الصرف"، ليس فقط في الاختيار المدهش للكلمات التي يجب ألا تُصرف لدواعٍ موسيقية مثل (مساجد- كنائس – مصر- مكة - سجاجيد.... الخ)، لكن الأجمل هو علامة (جر) تلك الكلمات وهي (الفتحة) عكس ما هو سائد في اللغة وهي (الكسرة) كعلامة للجر". على أنها تنتهي بحكمٍ عام وهو أن أزمةَ الخطاب اللغويّ العربيّ مرتبطةٌ بتدني المستوى الثقافي للفرد العربي في الزمن الراهن. غير أن الكتاب لا يقف عند الأحكام العامة، وإنما يحرص كذلك على تقديم الأدلة التطبيقية لإثبات مفاهيم بعينها في بعض القضايا الإشكالية وخاصة قضيّة الترجمة، بل قضية الفهم عامةً، وما تتعرّض له اللغة تاريخيًّا وجغرافيًّا من تحوّلات وتحوّرات. ولهذا كما تقول فإن " اللغةَ تحوّرُ نفسَها وتعيدُ خلقَ ذاتِها بشكل مستمرٍ ببطءٍ حينًا، كما تراكم الغبار فوق سطح مصقول، وبسرعة في حين آخر، كما فتوحات البلاد، (....)،. ففي اللغة العربية كمثال فقدت المجازات والكنايات القديمة دلالاتها ففقدت شرعيتَها بل ومعناها." ولهذا "فالقارئ لعمل أدبي مترجم يجب أن ينتبه أنه لا يقرأ الأصلَ عينَه بل يقرؤه عبر حواجزَ أفقيةٍ (جغرافية) وكذا رأسية (زمنية). ولكن إلى أي درجة من الدقة ومطابقة الأصل صيغَ هذا العمل؟ هذا سؤال على جانبٍ من التعقيد كبير حيث الفيصل غائب. ولكنني كقارئة لا أتوقف طويلا عند هذا السؤال حين أجدُ تباينات في طرح العمل نفسه عبر ترجمات عديدة له." وهنا تتدخل فاطمة ناعوت "كقارئة" لكن بجسارة "الكاتبة" فتقول بصراحة محبّبة: "بل إن هذا الأمر قد يبهجني قليلاً ويثير مكامنَ المكر في داخلي فأوسّع مساحة الاجتهاد لأطرحَ– ذهنياً- ترجمةً مغايرةً قد يكون المبدعُ بريئاً منها!". ولهذا تسارع بتقديم مثالٍ يبرهن عمليًّا على أن الترجمة- كما تقول- فعل تحوّل أفقيٍّ ورأسيٍّ بأن تختار مشهدًا مشهورًا من الأدب الكلاسيكيّ القديم، وهو اللقاء الشهير الذي تم بين هكتور وزوجته في الكتاب السادس من إلياذة هوميروس، في ترجمات عديدة له من الإغريقية القديمة للإنجليزية بلغت إحدى عشر ترجمة مختلفة بين الشعر والنثر عبر مترجمين كبار من بلدان شتى، ثم تقوم بترجمتها جميعًا من الإنجليزية إلى العربية، لتؤكد ما تقول به من أن طبيعة فعل الترجمة هو فعل إبداع يخضع للفروقات والتباينات أفقيًّا ورأسيًّا. ولهذا أخذت تتكشّف تلك التباينات بين الأصل الإغريقي ومختلف الترجمات الإنجليزية فيما يؤكد ما ذهبت إليه الكاتبة. وهو جهد رفيع المستوى وعميق الدلالة قامت به الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت دعمًا لتأكيد- كما تقول- "معنى التباين الأفقي الجغرافي بين منظومات اللغات المختلفة من ناحية وأيضًا التباينات الرأسية الزمنية التي فيها تتغير طرائق الخطاب وتتحوّر اللغة ذاتها عبر العصور." على أنه من أبرز قضايا هذا الكتاب الخصب، قضية الشعر الجديد أو ما يسمى قصيدة النثر التي تدافع عنها ناعوت لا باعتبارها شاعرة فحسب، وإنما أيضًا من زاوية تجدد الخبرات الإنسانية تحرّرًا من القيود التقليدية، واعترافًا بالتنوع والتجدد في الفكر والسياسة والاجتماع والفنون على السواء. وهكذا تخرج بنا في النهاية من قضية حريّة التعبير الأدبيّ والفنـيّ إلى حريّة التعبير الفكريّ عامةً، وذلك بمناسبة اعتقال الشاعر السعودي "علي الدوميني" لمجرد أنه تجرأ ووقّع على وثيقةٍ تطالبُ السلطاتِ السعودية بإجراء إصلاحاتٍ ديمقراطية داخل البلاد وإطلاق حرية الإبداع الأدبيّ تجديدًا للحياة ذاتها! ولهذا يكاد ينتهي هذا الكتاب العميق المسئول الممتع بلقاءٍ حميم بين "الشعر والحرب"! فتقول: " أليس الشعرُ حربًا على تقليدية اللغة؟ والصورةُ الشعرية الميتافيزيقية أو الفانتازية حربًا على المنطق؟ ألا يُعدُّ المجازُ والاستعارات والتقنيات الشعرية مثل تراسل الحواس والسوريالية واللازمنية وغيرها من الأدوات والتيمات التي دَرجَ على استخدامها الشعراء لونًا من الجموح والانقضاض على الواقع والصراع ضد المألوف؟ بل أليس الشعرُ ذاتُه محاولةً لهدم العالم وإعادة بنائه؟ (...) إن الفنَّ بشكلٍ عام هو حربٌ ضدُّ العادة. فالاعتياد هو كعبُ أخيلِ الفرح، وأولى الخطوات نحو الموت." وهكذا يكون الشعر وهكذا يكون الفنُّ بعامة كسرًا للمنطق وحربًا ضدَّ المألوف، كما يقول هذا الكتاب. فهل انتهى الكتاب بهذه الكلمات والرؤى العامة؟ لا. فما أكثر الكنوز الفكرية الأخرى التي يمتلئ بها هذا الكتاب الزاخر بالأفكار والقيم والمعارك دفاعًا عن الحياة والحرية والإبداع والتقدم المعرفيّ والإنسانيّ إلى غير حد. هذا كتابٌ يُعدُّ إضافةً عميقةً وجادةً ملهمَة إلى تراثنا النقديّ العربيّ المعاصر وتستحقُّ عليه الشاعرةُ والناقدة فاطمة ناعوت كل تقدير واعتزاز. محمود أمين العالم
الزوار (460)