فساد الأمكنة ( 160 صفحه)
الطبعة 1 , سنة النشر 1973
فساد الأمكنة
ويبصق نيكولا من فمه ترابا صحروايا حملته الريح, ويلعق حلقه الجاف بلسانه الجاف ويبرطم بلكنة ركيكة سباباً عربيا وهو يتأمل الفناء المخرب والمهجور أمام البيوت حيث كانوا يروحون ويجيئون, يعملون ويأكلون ويلعبون الورق ويشربون صاخبين أو شاكين همومهم.. لقد أخرجوا جميعا محاسنهم ومباذلهم وقدموها على تراب هذا الجبل وصخوره, قرابين فطنه وخلاعة.. فما أغباهم حين يهجرون أرواحهم الحقيقة ويرحلون لكن تلك طبيعة الاشياء. فهم قد جاءوا.. كثيرا.. ودائما كانوا قادرين على أن يأخذوا أرواحهم الحقيقة معهم. ودائما كان يبقي نيكولا مع الدرهيب وحده. لقد هربوا.. جميعهم هربوا.. يقولها نيكولا محتداً, ثم يلين صوته, وترق نبراته, وكأنه يحنو على جنبهم وفرارهم.. وكأنه موقن ان طاقته على الاحتمال فوق طاقتهم, وانهم فى النهاية أحرار مستقلون عن المكان لا يشدهم اليه ذنب او تربطهم به خطية.. فليس منهم من ضاجع ابنته فى باحة هذا الجبل, على وسادة من صخور, وأولدها طفلا, ثم سرقه منها وهي نائمة ليطعم منه الذئب والضبع! وليس منهم من قاد تلك الابنة في سراديب الجبل المظلمة ودهاليزه الحارة والباردة, ومضي يدفعها أمامه فى مسيرة جنائزية حتي تنتهي السراديب المطروقة وتبدأ السراديب المهجورة, تلك التى لم تطرقها قدم من مئات السنين, فيتركها هناك بعد أن يغلق عليها كهفا بانهيار صخري غادر. لقد صرخت ايليا وهي تري الصخر ينطق على باب الكهف ويحبسها بداخله.. وأخذت تهبش الصخور فى محبسها المظلم بأظافرها الجذابة الملونة, بينما صرختها تتسرب عبر السراديب وتترد فيها حتى بعد ان امتلأ حلقها بتراب الانهيار, وكفت عن هبش الصخور وبدأت تهبش فى عنقها الجميل بأظافرها الجميلة, قبل ان تسكن حركتها, كانت الصرخة ما تزال تتردد فيسمعها نيكولا خلال هرولته المذعورة فى السراديب, كأنها تطارده لتمسك به وتعيده الى ايليا.. وكأن الالم المنغم و اليأس والدهشة في تلك الصرخة المفجوعة تعاتبه وتدعوه للبقاء معها.. كأنها تلوح له بعالم مسحور هما كفيلان بخلقه فى تلك الصخور الصماء ليعيشهاه معا, جنبا الى جنب كما كانا دائما.. رجل وابنته.. أو رجل وأمه.. أو رجل وامرأته المعشوقة والمفضلة! فأين لهؤلاء الهاربين جميعا رباط دموى كهذا يمنعهم من الفرار؟
الزوار (1302)
نسخ مشابهة